تبدأ سورة الأنعام بقوله تعالى :(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) وحين
تسمع كلمة الحمد فعليك أن تفهم أنها كلمة المدح والثناء والشكر ,فالحمد
لله حينما استقبل الإنسان هذا الوجود ووجد كل مقومات الحياة التي لا يمكن
أن تخضع لقوة بشر ولا لإدعاء بشر,لذا فإن الحمد أمر واجب الوجود وإن اختلف
الناس حول من يوجه له الحمد.
وسور القرءان التي بدأها الله عز وجل بالحمد خمس سور هي :الفاتحة ,الأنعام ,الكهف ,سبأ وفاطر وتتركز كلها جميعاً حول شيئين : تربية مادية بإقامة البنيان بالقوت أو بقاء النوع بالتزاوج أو بتربيتهم تربية روحية ذات قيمة فيمدهم بمنهج السماء فيقول الله " الحمد لله رب العالمين
".فكلمة رب تعني أن الله تولى تربية الخلق إلى غاية ومهمة معينة والتربية
تحتاج إلى مقومات ماديه ومقومات معنوية وروحيه ومنهجية لذلك يأتي بها الحق
شامله للكون كله كما في فاتحة الكتاب " الحمد لله رب العالمين "
· وفي مره ثانية يأتي الحق بالمنهج وحده كما فى قوله سبحانه وتعالى :
( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)
· ومره ثالثة يأتي الحق بالأمور المنظورة فقط فيقول تبارك و تعالى :" الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور" كما في سورة الأنعام .
· ومره رابعة يأتي الحق بأشياء غير منظورة مع الأشياء المنظورة كقوله تعالى:
" الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولى أجنحه مثنى وثلاث ورباع "
· فتجد أن الله يأتي بالمجموع كله في فاتحة الكتاب ويأتي بالمنهج فقط فى سورة الكهف.
· ويأتي بالكون المادي كما في سورة الأنعام.
· ويأتي بالكون المادي والمعنوي كما في سورة فاطر.
فإذاً
علم الإنسان وجوب توجيه الحمد لرب واحد وهو رب العالمين فتم توحيد الله فى
الإعتقاد بأنه الوحيد المستحق للحمد وهذا الحمد متمثل فى توحيد الله فى
الإعتقاد ومن ثم يتبعه توحيد الله فى تطبيق شرائعه ومنهجه واتباع رسله ومن
هنا يظهر مقصد سورة الأنعام
سورة الأنعام
توحيد الله تعالى في الإعتقاد والتطبيق
سورة الأنعام (سورة مكية) وهي أول سورة مكية في ترتيب المصحف (سور البقرة إلى المائدة كلها سور مدنية)، نزلت بعد سورة الحجر وعدد آياتها 165 آية.
رافق نزول هذه السورة ميزات عديدة. فهي أولاً نزلت على قلب النبي r
جملة واحدة (في ليلة واحدة)، بينما نلاحظ أن كل السور الطوال في المصحف
كانت تتنزّل آياتها متفرقة.ولعل من أجمل ما يميّز هذه السورة أنها نزلت
يحفها سبعون ألف ملك لهم زجل - أي صوت رفيع عالي
- من التسبيح يسد الخافقين، وكل هذا في وقت الليل, فما أروع هذا الموكب
الملائكي المهيب في جنح الليل وهو يرافق نزول هذه السورة الكريمة، مما يعطي
ظلالاً رقيقة تجعلنا نترقب مضمون السورة وهدفها.
تبدأ السورة بقوله تعالى: ]ٱلْحَمْدُ لله ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ[،
فتشعر أخي المسلم من بداية السورة بهدفها ومحورها الأساسي، ألا وهو توحيد
الله عز وجل وعدم الشرك به أبداً، وأن لا يكون في قلبك غير الله تبارك
وتعالى.
وتتكرّر
مسألة توحيد الله تعالى وعدم الشرك به 49 مرة في السورة، في49 آية أي
حوالي (30%) من مجموع السورة. ولهذا نعلم سبب نزولها بهذه الهيبة ولماذا
كان يحفها سبعون ألف ملك كما ويمكننا أن نستشعر الحكمة من نزولها ليلاً،
فإنَّ جوَّ الليل يناسب هذه الروحانيات.
المخاطبون في السورة
في
خضم الأفكار والمذاهب ومناهج الحياة المختلفة - سواء أكانت هذه الأفكار
عبادة للأصنام أو لقوى الطبيعة كما في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، أو إلحاداً وإنكاراً لوجود الله كما في عصرنا الحديث - تأتي سورة الأنعام
لترد على كل هؤلاء من خلال الحديث عن قدرة الله وعظمته في الكون. ولهذا
فإن السورة تخاطبك أيها المؤمن أولاً، لتزيد من إيمانك بالله وحبك له
وإخلاصك في عبادته. وإلى جانب ذلك فهي تعطيك مادة للرد على الماديين ومنكري
وجود الله: من خلال الحديث عن قدرة الله في الكون، ثم نقض زعم الملحدين
بأنّ الطبيعة هي التي خلقت الكون، أو أن الكون خلق صدفة، فالإتقان والإبداع
في الكون هما أكبر دليلين على عظمة الخالق جل وعلا وتوحيده.
وتخاطب
هذه السورة فريقاً ثالثاً، وهم الناس الذين يؤمنون بالله لكنهم لا يريدون
أن يطبّقوا هذا الإيمان في سلوكهم. فتوضح لهم - كما سيتبين معنا في آخر
السورة وفي سبب تسميتها - أنّ الإيمان لا يتجزأ، وأنه يجب أن يطبّق على
الاعتقاد القلبي وعلى السلوك معاً. وهنا نفهم أهمية نزولها دفعة واحدة،
وذلك للتأكيد على أن التوحيد متكامل جملة واحدة في الاعتقاد والتطبيق.
وقبل أن نبدأ باستعراض آيات السورة، لا بد أن نلاحظ تسلسل سور القرآن في الحوار مع غير المسلمين: فسور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة خاطبت أهل الكتاب في محاور مختلفة، بينما سورة الأنعام اختصت بخطاب المشركين (وخاصة مشاركي مكة، لذلك كانت السورة مكية).
وهناك ملاحظة لطيفة أخرى في العلاقة بين السورة والسورة التي قبلها. فسورة المائدة ختمت بقوله تعالى: ]لله مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ وَمَا فِيهِنَّ[ كأنها تمهد لبداية سورة الأنعام ]ٱلْحَمْدُ لله ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ[.
كلمتان تغمران القلب حباً (قُل وهو)
إنَّ
لسورة الأنعام ترتيباً معيناً تسير وفقه من أول السورة إلى آخرها، وهو أن
ترد أربع أو خمس آيات تتحدث عن قدرة الله تعالى في الكون ثم تليها بعد ذلك
آيات أخرى تواجه الماديين ومن ينكر وجود الله ومن يزعم أنّ الطبيعة هي التي
خلقت الكون... وهكذا تسير الآيات من أول السورة إلى آخرها على هذا
المنوال.
وأكثر آيات السورة تبدأ بإحدى الكلمتين: (قل أو هو). فما سبب تكرارهما..؟! وما علاقتهما بمحور السورة؟
إنّك عندما تقرأ كل آية تبدأ بكلمة ]هو[، تجد أنها تتحدث عن قدرة الله، كقوله تعالى ]وَهُوَ ٱلله فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَفِى ٱلاْرْضِ[]وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْل[]وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ[]وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ[. وأما آيات مواجهة الكفار - والتي تخاطب النبي (كما تخاطب كل مؤمن) وترشده إلى كيفية مقارعتهم بالحجة - فتبدأ بكلمة ]قل[: ]قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱلله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ[ (19).
]قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ & قُلِ ٱلله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ & قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ[ (63-65) ]قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱلله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا[ (71).
فكأنّ
الآيات تخاطب القارئ قائلة: استشعر في نفسك من هو القادر حتى تملأ قلبك من
حبه، ثم انطلق في مواجهة من يشكك في إيمانك بوحدانيته وعظمته.
بعد أن شوّقتنا هذه المقدمات، تعال معي أخي المسلم لنعيش مع آيات القدرة والمواجهة في السورة.
بداية السورة
وموجة من الآيات الدالة على القدرة تبدأ السورة بثلاث آيات تظهر قدرة الله تعالى: ]ٱلْحَمْدُ
لله ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ
وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ & هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَه[ُ وبعدها قوله تعالى: ]وَهُوَ ٱلله فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَفِى ٱلاْرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ[. وقوله تعالى: ]فَقَدْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ[ (5).
فهذه
الآيات تدعو مَنْ يقرأها إلى أن يستشعر قدرة الله تعالى.. فإذا وجد
إدباراً من الكفار المنكرين، استشعر عظم جرمهم ومدى جرأتهم وضلالهم،
وواجههم بآياتها.
وتلاحظ في الآيات معنىً لطيفاً.. فالآية (12) تقول: ]قُل لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ قُل لله[، والآية (13) تقول: ]وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ[. الأولى تذكر أنّه ملَكَ المكان ]ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ[ والثانية تذكر أنه ملَكَ ]ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ[ أي الزمان، فسبحان من خلق الزمان والمكان وأخضعهما لملكه.
فإذا عرفت أنّ الله ملك الزمان والمكان.. فاقرأ بعد ذلك آية المواجهة الرائعة: ]قُلْ
أَغَيْرَ ٱلله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ
وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ
مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ[ (14) ]قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ[ (15) ]مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ[ (16).فالآيات تريد منك أخي المسلم أن تتحرر من كل مظاهر العبودية لغير الله، أو الخوف من مخلوق، فتلك علامة المعرفة وثمرة التصديق.
لاحظ في كل ما سبق أن كلمة (قل) تأتي دائماً بعد كلمة (هو)، وكأنّ المعنى: استشعر من (هو) الله واملأ قلبك بحبه، ثم تحرك و(قل) من هو الله وادع إليه وواجه كل من يشرك به.
حادثة عملية في المواجهة
ثم تأتي جماعة من الكفار ليقولوا للنبيّ r: هل معك دليل على رسالتك؟من يشهد لك أنك نبي؟ ومن يشهد أنّ إلهك واحد؟ فلقد سألنا اليهود عنك ليشهدوا لك فقالوا لا يوجد عندنا دليل.. فترد عليهم إحدى آيات المواجهة (الآية 19): ]قُلْ
أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱلله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ
وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ
أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱلله ءالِهَةً أُخْرَىٰ قُل لاَّ
أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا
تُشْرِكُونَ[ فهل في الكون كله أعظم من شهادة الله سبحانه وتعالى لنفسه ولنبيه.
ومع
أن السورة توجهت بالخطاب أساساً للمشركين - كما أسلفنا - لكنها تلمح في
الآية (20) إلى اليهود الذين أنكروا وجود الدليل على نبوة محمد r: ]ٱلَّذِينَ آتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ...[.
مشاهد حية من يوم القيامة
وأحياناً تشعرك الآيات أنك تشاهد مناظرها وتسمع أهلها.
فها هم يقفون أمام جهنم ]وَلَوْ
تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ
وَلاَ نُكَذّبَ بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ[ (27). ثم تنقلك الآيات إلى وقفة جليلة مهيبة، لطالما كذّب بها الكفار وأنكروها، وقفة أمام جبار السماوات والأرض ]وَلَوْ
تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقّ
قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُواْ ٱلعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ
تَكْفُرُونَ[ (30). وانظر إلى هؤلاء المثقلين المتعبين من الفسّاق والفجار بأحمالهم الثقيلة.. أنظر إليهم ]وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ[ (31).
الصبر والتثبيت عند المواجهة
ولا تكتفي الآيات بمد النبي r(وبالتالي كل الدعاة إلى الله) بالحجج والردود اللازمة لمواجهة الكفار فحسب، بل أنها تثبته وتعينه على الصبر على ما يلقاه من التكذيب: ]وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ[ (10)، وتقول أيضاً: ]وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَـٰهُمْ نَصْرُنَا...[ (34).
ولكن قمة التثبيت تأتي في قوله تعالى: ]قَدْ
نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ
يُكَذّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـئَايَـٰتِ ٱلله يَجْحَدُونَ[ (33). يا محمد، إن هؤلاء لا يكذّبون شخصك، إنهم يكذّبون الله وآياته، فهو ولّيك وناصرك من دونهم.
كلمات كالموج الهادر
وتمضي الآيات على نفس السياق: آية قدرة فآية مواجهة. فتأتي آية رائعة في بيان قدرة الله تعالى:
]وَمَا
مِن دَابَّةٍ فِى ٱلاْرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ
أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء[ (38).فإذا جحد هؤلاء الظالمون بكتاب الله، تبدأ الآيات في الشدة بمواجهتهم.
]قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱلله أَوْ أَتَتْكُمْ ٱلسَّاعَةُ أَغَيْرَ ٱلله تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ[ (40).
وتحذرهم من التمادي في المعاصي حتى لا تطبّق عليهم السنّة الكونية في البشر ]حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ[ (44).
وتأتي موجة جديدة من آيات المواجهة التي تبدأ بكلمة ]قل[:
]قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱلله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَـٰرَكُمْ وَخَتَمَ
عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱلله يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱنْظُرْ
كَيْفَ نُصَرّفُ ٱلاْيَـٰتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱلله بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ[ (46-47). إنّ سياق الآيات والكلمات يرقق المشاعر ويجعل القلب يخشع ويرغب في القرب من الله.
أسلوب جديد في المواجهة
ولأن الآيات تجهّز النبي صلى الله عليه وسلم ليواجه قومه بالدعوة، فإنها تستخدم أسلوباً جديداً في الآية (57) ففي قوله تعالى: ]قُلْ إِنّى عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَكَذَّبْتُم بِهِ...[ تأكيد على الثوابت العقائدية، وثقة بالنفس تهز الطرف الآخر. وهي طريقة دعوية مفيدة نتعلمها من آيات السورة.
شمول العلم والقدرة
وتبدأ الآيات في موجة جديدة من عرضها لقدرة الخالق، في سياق يهز القلب ويحرك أوتاره: ]وَعِندَهُ
مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى
ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ
حَبَّةٍ فِى ظُلُمَـٰتِ ٱلاْرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى
كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ[ (59) وكأنك ترى الورقة وهي تسقط في الصحراء أو على جبل أو في قاع بحر..
ومن الذي يتوفى الأنفس؟ إنه الله ]وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ[ (60) فكيف تشركون به؟
ومن الذي شمل الخلق علماً وعدداً؟إنه الله ]وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً[ (61) أي ملائكة تحفظكم من الآفات وتكتب أعمالكم من الحسنات والسيئات.
ومن الذي ينجي العباد من مهالك البر والبحر؟ إنه الله ]قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ[ (63). فكيف تشركون به؟
فإن شكّك أحد في ذلك فإن الآية ترد عليه بقوة: ]قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ[ (65) فمن الذي يخرج عن قدرته أو يغيب عن شمول علمه سبحانه وتعالى..؟!
فما
هو شعور المؤمن الذي يقرأ سورة الأنعام؟ إنه يشعر أن مشاعره تهتزّ وهي
تنزل على النبي ليلاً في موكب من الملائكة.. يشعر بصوت الملائكة وهم
يسبّحون الله لعظمة هذه السورة.. فهذه السورة تزلزل النظرة الإنسانية وتطوف
بالإنسان لتأخذه إلى ملكوت السموات والأرض والنهار والليل والبر والبحر
والشمس والقمر والنجوم.. تريك الجنات المعروشات.. إنها تطلعك على ملك الله
عز وجل.. حتى تصل إلى آية أخرى من آيات القدرة ]وَهُوَ
ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ بِٱلْحَقّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن
فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى
ٱلصُّوَرِ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ
ٱلْخَبِيرُ[ (73).
رحلة مؤمنة: سيدنا إبراهيم وقومه
وتبدأ
السورة بعد ذلك في عرض قصة إبراهيم ونظره في مظاهر قدرة الله في الكون..
ليسير نسق الآيات بين القدرة والمواجهة. إن هذه القصة ليست منفصلة عن ترتيب
السورة بل إنها وظّفت لتخدم الهدف تماماً.
يقول تعالى: ]وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ & فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ ٱلاْفِلِينَ[ (75-76). إنه ترتيب السورة نفسه، فإنه عليه السلام ينظر في قدرة الله تعالى: ]فَلَماَّ
رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبّى هَـٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا
أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ[(78). نعم لأنَّ الإله لا شك أنه أعظم من هذا كله ولذلك قال: ]إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ[(79). وبعد استخدامه لأسلوب عرض آيات القدرة تبدأ المواجهة ]قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى ٱلله وَقَدْ هَدَانِى...[ (80) مع تركيزه على نفي الشرك وتوحيد الله ]وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً[(80).
لذلك أثنى الله على هذا الأسلوب الدعوي بقوله تعالى: ]وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ...[(83).
ومن
جمال القرآن أنك ترى قصص الأنبياء تتكرّر في القرآن الكريم، لكنها في كل
مرة تخدم هدف السورة التي تذكر فيها، بإعجاز يعجز البشر عن الإتيان بمثله.
فسورة
الأنعام مثلاً أوردت جانباً من قصة سيدنا إبراهيم والذي يتعلق بنظره في
آيات الله واستخدامه أسلوب القدرة والمواجهة في الدعوة إلى الله فلم ترد
قصة إبراهيم عليه السلام حين رماه قومه في النار مثلاً، لكنها وظفت لتخدم
هدف السورة وسياقها.
التحذير الشديد من الشرك
وفي التعقيب على قصة إبراهيم تأتي آية محورية في التحذير من الشرك:
]ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ[ (82).
لما
نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله، قالوا: وأيّنا لم يظلم نفسه؟
فقال رسول الله: ليس كما تظنون، إنما هي كما قال العبد الصالح لابنه(أي
سيدنا لقمان): إن الشرك لظلم عظيم.
وحتى في الحديث عن أحب الخلق إلى الله، وهم الأنبياء، تقول الآيات بوضوح ]وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[ (88).
قدرة ومواجهة في نفس الآية
نصل إلى الآية (91) والتي اشتملت في أولها على آية من أروع آيات القدرة: ]وَمَا قَدَرُواْ ٱلله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ ٱلله عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَىْء...[(100).
وقف النبي صلى الله عليه وسلم
يوماً في أصحابه وتلا هذه الآية، ثم قال: يمجّد الله نفسه، يقول: أنا
الملك، أنا القدوس... وأخذ بترديد أسماء الله الحسنى، فنظر الصحابة إلى
المنبر، وكان يرجف برسول الله من وقع عظمة الله تعالى. إن الجماد والخشب قد
اهتزا لجلال الله تعالى، بينما هناك قلوب لم تتحرك من خشيته أو لجلاله،
فتواجه الآية في نصفها الثاني هؤلاء: ]قُلْ
مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِى جَاء بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى
لّلنَّاسِ... قُلِ ٱلله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ[ (91).
عودة إلى آيات القدرة: ألا تشعر بحبه؟
وتبدأ مع الآيات (95 - 103) موجة رائعة من إظهار قدرة الله في جمال الخلق وإبداعه: ]إِنَّ
ٱلله فَالِقُ ٱلْحَبّ وَٱلنَّوَىٰ يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ
وَمُخْرِجُ ٱلْمَيّتِ مِنَ ٱلْحَىّ ذٰلِكُمُ ٱلله فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ[ (95) ]فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلَّيْلَ سَكَناً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ[
(96) يظهر الله تعالى هنا قدرته في مثالين مختلفين: مرة في أنه فالق الحب
والنوى على صغرهما ومرة أخرى أنه فالق الإصباح ومظهره من ظلمة الليل على
اتساعه.
إن
السورة تهز الفطرة الإنسانية التي تعرف ربها جيداً وتدين له بالوحدانية،
لكن ركام الشرك قد يغطي هذه الفطرة في بعض الأحيان، فتأتي السورة لهز هذه
الفطرة وكسر مظاهر الشرك عنها لتعود إلى الله وتوحيده. لذلك فإنها تخاطب
المشركين بقولها: ]بَدِيعُ
ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ
لَّهُ صَـٰحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء وهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ[ (101) هل هناك من يجادل في هذا..؟ فمن الذي خلق وأبدع؟! إنه رب القدرة وحده لا شريك له: ]أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَـٰحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء وهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيم & ذٰلِكُمُ ٱلله رَبُّكُمْ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء فَٱعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء وَكِيلٌ & لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلاْبْصَـٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلاْبْصَـٰرَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ[ (101-103).
كل ذلك لتأتي الآية المحورية رقم 104 ]قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ[.
لقد اتضحت مظاهر عظمة الله تعالى وقدرته وقوته في الكون ]فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا[ (104) فمن آمن وصدق فهو المستفيد ومن كفر فهذا هو العمى الحقيقي: عمى القلب والذي هو أخطر من عمى البصر.
]أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ[ (104)
ولتصوير
الفرق بين الإيمان والكفر تستعمل السورة أكثر من مثال وأكثر من تشبيه، فهي
في الآية السابقة 104 تشبه الكفر بالعمى، لكنها في الآية (122) تذهب إلى
أبعد من هذا بكثير:
]أَوَ
مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ
فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَـٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا
كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَـٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ[.
بعد أن رأينا كل هذه الآيات المعجزات على وجود الله وتوحيده، ماذا يكون
حال من يكفر؟ إنه كالميت، لكن من رحمة الله تعالى أنه يهديه، فيحييه من
جديد، لا بل أكثر من ذلك، يجعل له نور التوحيد والهداية ليمشي به في الناس
ويدلّهم على طريق الله. مثال رائع بالمقارنة مع من يقبع في الظلمات ولا
يريد حتى أن يفكر بالخروج منها، بل أن كفره وظلامه مزيّن له بأبهى صورة...
سبب التسمية: توحيد في القصد والعمل
ويبقى سؤال أخير وهو: لماذا سميّت هذه السورة بالأنعام؟
إن الأنعام هي المواشي التي يقوم الناس برعيها ويأكلون لحمها، ولكن ما العلاقة بين الأنعام وبين سورة تتحدث عن توحيد الله تعالى.
إن
العلاقة بينهما وثيقة جداً، فإن السورة تناولت موضوع توحيد الله تعالى،
وهي تحذر الناس من الاعتقاد بأنّ التوحيد يكون بأنْ يقول المرء في نفسه أنا
أوحّد الله وواقع حياته لا يشهد بذلك، بل ينبغي أن يوحّد الله اعتقاداً
وتطبيقاً.
فكثير
من الناس يوحّدون الله اعتقاداً فهو يجزم بهذا الأمر ولا مجال للنقاش أو
الشك في توحيده لله عزّ وجلْ ولكن إذا تأملنا واقع حياته، وهل يطبق شرع
الله تعالى في كل تصرفاته فإننا سنجد أنّ الأمر مختلف.
إنّ توحيد الله تعالى لا يكون في الاعتقاد فحسبْ بل لا بد من توحيده في كل تصرفاتنا وحياتنا اليومية...
وسبب
تسمية السورة بالأنعام أنّ العرب كانوا ينظرون للأنعام على أنها ثروتهم
الأساسية وعصب حياتهم، فتعاملوا معها على أنها تخصهم ولا علاقة لله تعالى
بها - بزعمهم - يقول تعالى: ]وَجَعَلُواْ
لله مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلاْنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ
هَـٰذَا لله بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ
لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى ٱلله وَمَا كَانَ لله فَهُوَ يَصِلُ
إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ[(136).
وبعد ذلك يقول ]وَقَالُواْ
هَـٰذِهِ أَنْعَـٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء
بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَـٰمٌ حُرّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَـٰمٌ لاَّ
يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱلله عَلَيْهَا ٱفْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا
كَانُواْ يَفْتَرُونَ *
وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلانْعَـٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا
وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوٰجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ
شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ[ (138 - 139).
فهذا
تحذير من توحيد الله اعتقاداً فقط دون أن يكون لهذا التوحيد أثر في
التطبيق.. فإياكم ثم إياكم أن توحّدوا الله تعالى في الاعتقاد وتخالفوا ذلك
في التطبيق. لهذا اختار ربنا نوعاً من أخطاء التطبيق وسمى به السورة حتى
يخاف المرء ويسأل نفسه عن التطبيق كلما قرأ آيات التوحيد وعدم الشرك.
ولأن التوحيد يشمل الاعتقاد والتطبيق جاء ختام السورة ]قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لله رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ ٱلله أَبْغِى رَبّا وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْء وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا[ (162 - 164).
فمن كانت لـه هذه القدرة أحق بأن يكون لـه التوحيد الخالص في كل مظاهر حياتنا الفكرية والروحية والعملية.
هذه المعاني كلها تلخصت في ثلاث آيات محورية في المواجهة على مدار السورة:
]قُلْ أَغَيْرَ ٱلله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ[ (14).
]أَفَغَيْرَ ٱلله أَبْتَغِى حَكَماً وَهُوَ ٱلَّذِى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ مُفَصَّلاً...[ (114).
]قُلْ أَغَيْرَ ٱلله أَبْغِى رَبّا...[ (164).
فهذه الآيات الثلاث ركزت على محاور التوحيد الثلاثة وهي التوحيد في الربوية وفي المحبة وفي الاحتكام لشرع الله تعالى.
ختام السورة: الإستخلاف
بعدما أكد الله تعالى من خلال آيات السورة ملكه للأرض وإبداعه لها وتصرفه فيها، أعطانا الأرض واستخلفنا عليها: ]وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـٰئِفَ ٱلاْرْضِ[ (165).
وهنا
لفتة لطيفة في الربط بين هدف سورة الأنعام وهدف سورة البقرة (المسؤولية عن
الأرض). كما أنّ الختام هنا يمهّد لسورة الأعراف التي تناولت موضوع الصراع
في الأرض بين الحق والباطل: ]... وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَـٰكُمْ[ (165).
[ri