فضل الصباح وبركته روى الإمام مسلمٌ في صحيحه عن أبي وائل شقيق بن سلمة
الأسدي قال : " غَدَوْنا عَلَى عبد الله بن مَسْعود يَوْماً بَعْدَ مَا
صَلَّينَا الغَدَاةَ، فسلّمنا بالباب، فأُذِن لنا، قال: فَمَكَثْنَا بالباب
هُنيَّةً [ أي انتظرنا و تريَّثنا قليلاً] قال : فخرجت الجاريةُ فقالت :
أَلاَ تَدْخُلُونَ؟ فدخلنا،فإذا هو جالسٌ يُسبِّح، فقال: ما منعكم أن
تدخلوا وقد أُذِن لكم؟ فقلنا: لا، إلاَّ أنَّا ظنَنَّا أنَّ بعضَ أهل البيت
نائمٌ، قال: ظَنَنْتُم بآل ابن أمِّ عَبدٍ غَفْلَةً؟[ يعنِي نفسَه فإنَّ
أمَّ عبدٍ الهذلية أمُّه، وهي صحابيَّةٌ رضي الله عنها وعنه] قال: ثمَّ
أَقبل يُسبِّح حتى إذا ظنَّ أنَّ الشمسَ قد طلعت، قال : يا جارية : انظري
هل طلعت؟ قال: فنظرت فإذا هي لَم تَطلُع، فأقبل يُسبِّح ، حتى إذا ظنَّ
أنَّ الشمسَ قد طلعت، قال : يا جارية : انظري هل طلعت؟ قال : فنظرت فإذا هي
قد طلعت ، قال : الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا، ولم يُهلكنا بذنوبنا "
صحيح مسلم (1/564).
إنَّ هذا الأثرَ يُعطي المتأمِّلَ صورةً واضحةً ودلالةً ناصعةً على تلك
الحياة الجادَّة و الهِمَّة العالية والاستثمار للوقت عند السلف الصالح
رحمهم الله، ولا سيما الصحابةُ رضي الله عنهم وأرضاهم، مع فقهٍ منهم
بالأوقات و معرفةٍ لأقدارها و الفاضلِ منها، وإعطاءِ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.
فهذا الوقتُ الذي دخل فيه أبو وائل –رحمه الله- ومَن معه على عبد الله بن
مسعود وقتٌ مبارَكٌ وثمينٌ للغاية، وهو وقتُ ذِكرٍ لله وجدٍّ ونشاط وهمَّة
في الخير، إلاَّ أنَّ كثيراً من الناس يُهملونه ويفرِّطون فيه ولا يعرفون
له مكانتَه وقدرَه، فهو ضائعٌ إمَّا في النّوم ، أو في الكَسَل و الفتور،
أو بشغله في التوافه من الأمور، مع أنَّ أَوَّلَ اليوم بمنْزلة شبابه،
وآخرَه بمنزلة شيخوخته ، ومَن شبَّ على شيءٍ شاب عليه، ولهذا فإنَّ ما يكون
من الإنسان في باكورة اليوم وأوَّله ينسحب على بقيَّة يومه، إن نشاطاً
فنشاطٌ، وإن كسلاً فكسل، ومَن أمسك بزمام اليوم وهو أوَّلُه سلم له يومُه
كلُّه بإذن الله ، وأُعين فيه على الخير، وبُورِك له فيه، وقد قيل : {
يومُك مثل جملك إن أمسكتَ أوَّلَه تبعَك آخرُه} وهذا المعنى مستفادٌ من أثر
ابن مسعود المتقدِّم، فإنَّه لَمَّا تحقَّق له حفظُ أوَّل اليوم بالذِّكر
قال: { الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا ولم يهلكنا بذنوبنا} .
بل إنَّ المحافظةَ على الذِّكرِ في هذا الوقت يُعطي الذَّاكرَ هِمَّةً
وقوَّةً ونشاطاً في يومِه كلِّه، يقول ابن القيم رحمه الله: { حضرتُ شيخَ
الإسلام ابنَ تيمية مرَّةً صلّى الفجرَ، ثم جلس يذكُر اللهَ تعالى إلى قريب
من انتصاف النهار، ثم التفتَ إليَّ وقال: هذه غدوتِي ، ولو لَم أتغذَّ هذا
الغِذاءَ سقطت قوَّتِي، أو كلاماً قريباً من هذا" أهـ. الوابل الصيب ص:
85-86
وقد ثبت في السُّنَّة أنَّ النَّبيَّ دعا اللهَ أن يُبارك لأمَّتِه في هذا
الوقت، فقد روى أبو داود و الترمذي و الدارمي وغيرُهم عن صخر بن وَداعة
الغامديِّ أنَّ رسول الله قال:" اللَّهمَّ بارِك لأمَّتِي في بكورِها" وكان
إذا بعث سريَّةً أو جيشاً بعثهم أوَّلَ النهار، وكان صخرٌ تاجراً، فكان
يبعثُ تجارتَه من أوَّلِ النهار فأثرى وكثُر مالُه .
وقد روى هذا الحديث جمعٌ من الصحابة، منهم عليُّ بن أبي طالب، وابنُ عباس،
وابن مسعود، وابنُ عمر، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وعبد الله بن سلاَم، و
النواس بن سمعان، وعمران بن حُصين، وجابر بن عبد الله وغيرهم رضي الله عنهم
أجمعين، وهو حديث ثابت عن النَّبيِّ .
ونظراً لأهميَّة هذا الوقت وعِظَم بركتِه وكثرة ما فيه من خيرٍ، فإنَّ
السلفَ رحمهم الله كانوا يكرهون النَّومَ فيه وإضاعتَه بالكسل و العجز،
يقول ابن القيم رحمه الله ـ وهو العلاَّمة المربِّي ـ في كتابه مدارج
السالكين :{ ومِن المكروه عندهم- أي السلفُ رحمهم الله- النَّومُ بين صلاة
الصبح وطلوع الشمس، فإنَّه وقتُ غنيمَة، وللسير ذلك الوقت عند السالكين
مزيَّةٌ عظيمةٌ، حتى لو ساروا طول ليلِهم لَم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك
الوقت حتى تطلع الشمسُ ، فإنّّه أوَّلُ النهار ومفتاحُه، و وقتُ نزول
الأرزاق، وحصولِ القَسْم، وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحبُ حكمُ
جميعه على حكم تلك الحصَّة، فينبغي أن يكون نومُها كنوم المضطر} اهـ .
ومن الآثار الواردة عن السلف –رحمهم الله- في هذا المعنى ما روي عن عبد
الله بن عباس رضي الله عنهما أنَّه رأى ابناً له نائماً نومةَ الصُّبحة
فقال له:" قُم، أتنامُ في الساعة التي تقسَّم فيه الأرزاق" .
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، أنه قال:" النَّومُ
على ثلاثة أوجه، نوم خُرْق ، ونوم خُلْق، ونوم حُمْق، فأمَّا النَّوم
الخُرْق فنومةُ الضُّحى، يقضي الناسُ حوائجَهم وهو نائمٌ، وأمَّا النَّوم
الخُلْق فنومُ القائلةِ نصف النهار، وأمَّا نوم الحُمْق فنومٌ حين تحضر
الصلاة " .
يقول العلاَّمة ابن القيم- رحمه الله- في كتابه زاد المعاد : {ونوم
الصُّبحة يَمنع الرِّزقَ، لأنَّ ذلك وقتٌ تطلبُ فيه الخليقةُ أرزاقَها، وهو
وقتُ قِسمةِ الأرزاق، فنومُه حرمانٌ إلا لعارضٍ أو ضرورة، وهو مُضِرٌّ
جدًّا بالبدن لإرخائه البدنَ، وإفسادِه للفضلاتِ التي ينبغي تحليلُها
بالرياضة، فيُحدثُ تكسُّراً وعيّاً وضعفاً، *، وقد ذكر نحواً من هذا
العلاَّمةُ ابن مُفلح –رحمه الله- في كتابه الآدابُ الشرعية (3/162).
وبهذا يتبيَّن قيمةُ هذا الوقت المبارك وعِظمُ نفعه، وأنَّه وقتُ جدٍّ
ونشاط، وذكرٍ لله عزَّ وجلَّ، وهو وقتُ نزولِ الأرزاق، وحصول القسْم، وحلول
البركة، وقد كان للسلف- رحمهم الله- معه شأنٌ عظيم، إذ أدركوا أهميَّته
وقيمتَه، ولغيرهم معه شأن آخر .
نسأل اللهَ أن يُلهمنا رشدَ أنفسنا، وأن يُوفِّقنا جميعاً لكلِّ خير، وأن يرزقنا اتِّباعَ نهجَ السلف الصالح وسلوكَ سبيلهم
من كتاب : فقه الأدعية والأذكار للشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
ابو وائل محمد الجزائري
منقول