اللذّة ...أنواعٌ ودُعاة .
الحمد لله وحده الصلاة والسلام على مَنْ لا نبيِّ بعدُه :
إنَّ للذِّةِ أقساماً ثلاثة , قدْ ذكرَها العلّامة/ ابن القيِّم الجوزية ,في كتابِه : روضة المُحبّين ونُزهَة المُشتاقين, بقولِه :
1/ لذَّةٌ جُثمانيّة : فاللذَّة الجثمانيةُ لذَّةُ الأكل والشرب والجِماع ,
وهذه اللذَّة يَشترك فيها مع الإنسانِ الحيوانُ والبهيمُ , فليس كمالُ
الإنسان بهذه اللذّة لمُشاركةِ الحيوانات له فيها ...
أقول :
*إنَّ دُعاةِ اللذِّة اليوم , يدعو جُلُّهم إلى هذه اللذَّة الجُثمانيَّة , بطريقٍ مُباشر , أو بطرُقِ الإيحاءات المُختلِفة .
* إنَّ أوَّلَ مَنْ تولَّى كِبَرَ تمكين هذه اللذََّةِ مِنْ القلوب ,
الإعلام بعمومِهِ , الذي سيطرَ العلمانيّون عليه , بغضِّ النظرِ عنْ
نسبتهِم إلى الدِّين المُنتسبين إليه, فَهُم وإنِ اختلَفت أديانهم ,
لكنَّهم يسيرون على نهجٍ واحدٍ لفكرةٍ واحدة , وهي استبعادُ الدِّين مِن
شُؤون الحياة تدريجيّاً .
* فتُصبِحَ المحصِّلة النهائيّة للفِكرة : هي تفريغُ الإنسانِ مِن روحه
الدينيّة الساميّة , وحتّى يحصُل كَمالُ التفريغِ الروحانيِّ لَه , يجب
تعليقُه باللذِّة الجُثمانيّة , وتحسينِهِا لهُ .
* إنَّ هذه اللذة ليست مذمومةً على الإطلاق , ولكنَّ التلذُّذَ بِها ,
مُقيَّدٌ بقيودٍ فرضَها الشارع الإسلامي الحكيم , لتكونَ عوَناً لَهُ على
السعادةِ الأبديَّة , و ما تجاوزَ أحدٌ قيودَ هذا الشارعِ الإسلامِي في
اللذَّة إلَّا وعادة عليه بالألمِ والشقاء بعدَ الإثمْ.
* إنَّ هذه اللَّذة ما فشَت في قومٍ إلَّا أورثتهُم ذُلاًّ وصَغاراً مِنْ
أنفسهِم ومِن أعدائِهِم, وإنَّ العدو الغازي للقومِ فِكريِّاً , ما وجَد
سِلاحاً أنجحَ في غزوهِ وأكثرَ تأثيراً إلَّا عَن طَريقِ هذه اللذَّة ,
فإنِ اشتغلَ القومُ بلذَّاتهِم الجُثمانيَّة , انشغلوا عنْ ما هو أصلحُ
لَهُم وأسمى .
2/وأمََّا اللذَّةٌ الوهميَّة الخياليِّة : فلذةُ الرِّئاسة والتعاظُم على الخَلْقِ والفخرُ والاستطالَةُ عليهِم .
وهذه اللذَّة وإنْ كان طُلّابها أشرف نفوساً مِنْ طُلَّاب اللذَّة الأولى
فإنَّ آلامها وما تُوجبه مِن مفاسِد أعظمُ مِن التذاذِ النَّفسِ بِها ,
فإنَّ صاحبهَا مُنتصِبٌ لمعادةِ كلَّ مَنْ تَعاظَمَ وترأس عليهِ...
أقول :
*ما فشَتْ هذه اللذَّةُ في قومٍ إلَّا وفشا فِيهم : الحسدُ والبغضاء والضغينِة والظُلم .
* إنَّ طُلَّاب هذه اللذَّة يُعميهِم صِراعهُم في طلبِ مناصِبِ التشريفِ عنْ ما فيها مِنْ التكليف .
* يُخبرُني أحدُ الشُعراء عن ظاهرةٍ بين بعضِ الشُعراء والمُثقَّفِين ,
أَطلق عليها هذا الشاعر مُصطلَح " الغيرة " بين الشُعراء , بحيث يُحاوِل
أحدهُم هضم وحجبْ حقَّ الآخر وإبداعَه, لكيلاَ يسبقَهُ في الظُهور وكسبِ
الجماهير , وهذه صورة لحقيقةِ الحسد , التي تكثُر عندَ طُلَّابِ هذه
اللذَّة .
* إنَّ المُتحزِّبين الذين يجعلون مِن الدِّينِ وسيلةً إلى الوصولِ إلى
السُلطَةِ والسيادة , كالإخوانيِّين و السروريِّين والمُتصوِّفة , ليسوا
إلَّا صُورةً مِن صُورِ طُلَّابِ هذه اللذَّة , ولذلِك نجدُهم حينَ يصلون
إلى مناصِب السُلطَة لا يُحكِّمونَ هذا الدِّين , فقد كان الدِّين عندهَم
وسيلةً مرحليَّةً لنيلِ أهدافٍٍ أُخَرْ .
وفي الحقيقة : " أنَّه لا حقيقةَ لهذِه اللذَّتينِ "
يقول الإمام / ابن القيِّم الجوزيَّة :
فليست هذه في الحقيقةِ بلذَّةٍ وإنْ فرحِت بها النفسُ وسُرَّت بحصولِها .
وقَدْ قِيل : إنَّه لا حقيقَة للذِّةِ في الدُّنيا وإنَّما غايتُها دفعُ
آلامٍ كما يُدفع ألمُ الجوع والعطش وألمُ الشهوة بالأكلِ والشُربِ والجِماع
. ولذلِك يُدفَع ألم الخُمول وسُقوطِ القَدْرِ عِندَ النَّاس بالرِّئاسَة
والجاه .
والتحقيق : أنَّ اللذَّة أمرٌ وجوديٌّ يستلزِمُ دفعَ الألمِ بما بينهما مِنْ التضادّ.
3/ اللذَّةُ العقليَّة الرُّوحانيَّة : فهي كلذَّة المعرفَة والعِلم
والاتصاف بصفات الكمال مِن الكرم والجُود والعِفّة والشجاعَة والصبر
والحِلْم والمروءة وغيرها , فإنَّ الالتذاذ بذلك مِنْ أعظم اللذَّات , وهو
لذَّةُ النفسِ الفاضلة العُلويَّة الشريفة , فإذا انضمَّت اللذَّة بذلِك
إلى لذَّةِ معرفةِ الله تعالى ومحبَّتهُ وعِبادته وحده لا شريك لَهُ
والرِّضا بِهِ عوضاً عنْ كلِّ شيء ولا يُتَعوَّض بِغيرهِ عنه , فصاحبُ هذه
اللذَّة في جنَّةٍ عاجلةٍ نِسبتُها إلى لذَّاتِ الدُّنيا , كنسبَة لذَّة
الجنَّةِ إلى لذَّةِ الدُّنيا .
أقول :
*إنَّ طُلَّابِ هذه اللذَّة هُم أشرَفُ الخَلقِ نُفوساً وأسماهَم مكانة ,
وما انتَشرَ في قومٍ طُلَّابُ هذه اللذَّة إلَّا وعمَّ فِيهم الخير
بأنواعِهِ ومعانيه .
* إنَّ بانشغالِ الإنسان بالالتذاذ بملذَّات الرُّوح العُلويَّة غِنىً عنْ
تمكينِ اللذَّة الجُثمانيِّة ولذِّةِ الوهمِ والخيال مِنه .
* إنَّ هذه اللذَّة قد قلَّ الدُّعاة لَها مِن وجَه , وأعرضَ عنها الكثيرُ مِن وجهٍ آخَر .
* إنَّ الالتذاذَ بهذه اللذَّة ليسَ سهلاً , لأنَّ فِيه نَصرَ الرُّوح
العلويَّة في الإنسان على ما سِواها وإنْ خالفَ ذلكَ شهوة النَّفسِ
الدَنيئةِ وهَواها , وهذا يعني أنَّ الالتذاذَ بهذه اللذّة يستلزِمُ شِدَّة
مُجاهدَة النَّفس السُفلى هرَباً إلى أسمى مَعانيها .
( تنبيه للشيخ / عبَّاس الشرقاوي , فيما يختَّصُّ بهذا الجانِب" بالمعنى").
سألَني يوماً عن خُطَّتي القادمة في الحياة, فقلتُ لَه : أُريدُ أنْ
يُيَّسِّرَ الله لِي الانكبَاب على طلبَ العِلم , فقال لي _ بأُسلوبِ
مُشكِّكٍ أو مُستهزِأ _ أصادقٌ أنتَ ؟ _ وكرَّرَها على سَمعي , _ حتَّى
عرفَ مِنَّي تَضايقاً مِن هذا التشكيك _ , فقال لِي : لا تظنّ أنَّ ما
طلبتَهُ سهل , ستُختبَر وتُمتَحَنْ وتُفتَن , وهذا يحتاجُ إلى جِهاد ومجهود
, فإمَّا أنْ تصدُقَ نيَّتَك وتنجَح , وإمَّا الأُخرى فتفشَل .
وكأنَّه يُذكِّرُني بقولِ الله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم
مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).
ولِتعلَم أخي القارئ :
أنَّ اللذَّةَ الرُّوحانيَّة العقليَّة , التي يستلذُّ بِها أصحاب النفوس
العُلويَّة الشريفة , هي في حقيقتهَا : النصر على النفسِ السُفليَّةِ
الأمَّارة بالسوءِ والهوى الشيطَان , في معركةٍ الإنسانِ للوصول إلى صِفاتِ
الكمال , فمنِ انتصرَ غَنمَ هذه اللذَّةَ الرُّوحانيَّة , ومَنْ فشلَ كانَ
رِقَّاً للذِّةِ الجُثمانيَّة أو اللذَّةِ الخياليّة الوهميَّة .
وهذا هُوَ معنى الاختبَار الذي تنتهي مُحصِّلته إمَّا للإنسانِ أو عليه .
وخِتاماً :
*إنَّ الأخذ مِن حظوظ الدُّنيا يجب أنْ يكون بمعنىً لا يتنافى عن ما ترتضيه
النَّفس العُلويَّة الشريفة , وهذا لا يكون إلَّا بأخذِ حُظوظ الدُّنيا
وِفقَ ناموس الإسلام الحكيم , الذي ارتقى بالنفسِ البشريَّة حتَّى في
ملذَّاتهِا الجُثمانيَّة مِن أكلٍ وُشربٍ وجِماع , وجعل مِنها وسيلةً إلى
الغاية الأسمى , ألا وهيَ الاستعانَة بِها على طاعة الله لتحصيل السعادة
الأبديَّة واللذَّة المُتَّصلة , وكذلك جعل في ولايَةِ الأمر , مسؤوليةً
تكليفيّةً على الوالي وعلى مَن وليَ أمرهُم , فيجب عليه تطبيق شرعِ الله ,
ويجب عليهِم طاعته ونُصحه , وبهذا تُصبَح المناصِب تكليفيَّةً تكونَ
الغايةَ مِنها إنفاذُ حُكمِ الله وشرعِه , وقِيادُة المُسلمين إلى ما يُرضي
الله جلَّ وعلا , وبهذا تَتحصُّلُ أيضاً السعادة الأبديَّة واللذَّة
المُتَّصلة .
* وحقيقة تحصيل اللذَّة الروحانيَّة : أن يستعينَ الإنسان بلذَّة البدنِ
المُباحة وبالمنصِب المُوكَلِ إليهِ في طاعةِ الله , وبهذا يكونُ مِن أصحاب
النَّفس العُلويَّة الشريفة .
فياليت شِعري هل سيكثُر يوماً الدُّعاة إلى اللذَّة الرُّوحانيَّة
العقليَّة كما كثُرَ الدُّعاةُ إلى غيرها مِنَ اللذَّات؟, إذا حَصلَ ذلكَ
إنِّي إذاً لسعيدُ .
وصلِّي اللهم وسلِّم على سيّدنا مُحمد وعلى آله والأصحاب ومَنْ تبعهُم بإحسان .