بسم الله... والحمد لله... والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه... وبعد:
رحلة عبر الزمان... اخـتــراع جديد
ذات يوم... وبعد أن عدت إلى البيت من المسجد... عقب صلاة الفجر... والشروق... عدت لأطالع الصحف والجرائد... كما اعتدت على ذلك منذ زمن...
وكان معظم الأخبار يحمل مواضيع سيئة؛ ففي الصفحات الرسمية أنباء عن المساجلات والمناوشات التي تحدث تحت قبة مجلس النواب، و كذلك أخبار عن الفساد والمفسدين الإداريين، وأطراف عن السرقات، والرشاوي والاختلاسات، والخيانات المالية... وغيرها...
***
هذا وقد تألمت -أشد الألم- عندما وقفت مع أخبار البلد، والشؤون الاجتماعية، والأسرية والقضائية، والمحلية، فلامحاكم تغض بالمتخاصمين: قضايا طلاق ونشوز.... قضايا عقوق وقطيعة أرحام..... خصومات بين الجيران مخالفات بالعشرات.... ملاحقات بالمئات... مطالبات ماليه بالآلاف..... صفقات مشبوهة.... لحوم فاسدة.... أغذية منتهية... حوادث مرورية مؤسفة بسبب التهور والسرعة... أنباء عن مهربي المهدرات.... وأخبار عن مدمنين ومتعاطين.... حتى الانتحار (والعياذ بالله تعالى) صرنا نجد له زوايا وأخباراً بين الحين والآخر...!!
***
وقد أذهلني... ما قرأت في الصفحات السياسية والدولية: فأخبار عن حروب طاحنة تطيح بالمئات، وربما بالآلاف من القتلى... سجون واعتقالات.... أزمات ومشاكل.... وقضايا عن الكوارث الطبيعية... زلازل تتحرك وتثور... فيضانات وانهيارات أرضية... أعاصير وعواصف رعدية... تسونامي هنا... ونزاعات هناك...
***
ولم يختلف الوضع عندما وصلت إلى الصفحات الاقتصادية؛ فأنباء الأزمة المالية تلقي بظلالها على الناس: البورصة في تدنٍ.... الأسهم في انخفاض.... الأسعار إلى ارتفاع.... السلع والمواد إلى قلة وفقدان.... أخبار وهمية عن شركات مالية من أجل تلميعها وتحسين فرصها في السوق... إلى آخره....
***
ولم أعرج على الصفحات الرياضية.... ذلك أنها لا تخلوا من محظورات شرعية: عورات تكشف.... تضييع للأوقات.... هدر للأموال.... لهو يضر ولا ينفع... تخدير للشعوب.... إلخ.
***
حقيقة... بعد أن تركت الصحف والجرائد... شعرت بأن الحياة ثقيلةً على نفسي ومشاعري...!!
خطر في بالي -فجأة- صورة للمجتمع الإسلامي أيام العصور الزاهرة... أيام خير القرون -ولاسيما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم... ورضي الله تعالى عنهم أجمعين- ولكن كيف السبيل إلى زمان: مضى... وانقضى... وتفصلنا عنه مسافات شاسعة من الزمن... تجاوزت ألف عام بكثير..!!؟؟
***
ولكني قرأت في قصص الخيال العلمي... عن آلة تسافر بالإنسان عبر الزمن إلى: الوراء... أو الأمام... فما رأيكم أن نجربها وإياكم..!!؟؟
وهي عملية سهلة... وبسيطة... وكل ما تحتاجه هو الضغط على زر الانطلاق... لتنقلك إلى الزمن الذي تريد: ماضياً... أو مستقبلاً... وشرط أن: تعدل من هيئتك حتى لا يكشفك أحد من أبناء ذلك الزمن... فتفسد رحلتك... إذاً فما عليك إلا:
1- تقصير الثياب... 2- وإطلاق اللحية...3- والكلام بالعربية الفصحى ... 4- والتسلح: بالحق... والتواضع والخلق الحسن...
إذاً... أنت جاهز للانطلاق؟!
هيا بنا...
واحد... اثنان... انطلاق....
الحمد لله على السلامة.... لقد وصلنا بنجاح إلى عاصمة الخلافة الراشدة... في المدينة النبوية -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالي عنه وأرضاه ... فأحببنا أن نبدأ بزيارة المسجد النبوي (كما هي السنة)...
***
ونحن في الطريق إلى المسجد... التقينا برجل... فسلمنا عليه فرد السلام بحرارة وسرور -غير مألوف بالنسبة لنا- وبالصيغة الكاملة التامة فقلنا في أنفسنا نسأله عن الأحوال... ريثما نصل إلى المسجد... فسألنا قبل الجواب: من أي البلاد أنتم... فقلنا: من بلاد بعيدة...
وبعد أن تعارفنا بالأسماء كما هي السنة.
قلنا له نريد لمحة سريعة عن حياتكم...؟؟، عن شؤونكم عن شعوركم...؟؟، هل أنتم سعداء أم لا ...؟؟، هل أنتم راضون أم ساخطون...؟؟، كيف كنتم...؟؟، وكيف أصبحتم...؟؟
قال: اللهم لك الحمد... حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه... على نعمة الإسلام...
يا أحبابي... كنا قبل الإسلام... نعيش بِشرِ معيشة... القوى يأكل الضعيف... ويعتدي على الإنسان؛ فلا ينتصر له أحد... الفقر شديد... والجهل أشد... يستبد بنا الزعماء... والأشراف... فلا ينصفنا أحد... ولا يدافع عنا إنسان...
نعيش على هامش التاريخ... لا دوله قوية لنا... ولا تراحم بيننا... وكنا كما وصفنا الله عز وجل: في ظلمات بعضها فوق بعض، فأخرجنا الله سبحانه وتعالى إلى نور الإيمان، والتوحيد، والإسلام؛ فلا ذل إلا لله... ولا عبادة إلا له سبحانه وتعالى...
نعيش: إخوة متحابين، متآخين، متساويين في الحقوق والواجبات، فأصبحنا بخير معيشة... المال كثير، والحرية متاحة للجميع... العدل أساس الحياة... لا يضطهدنا أحد: بأي أسلوب... أو قانون... أو حيلة ما... أسلمنا لله قلباً وقالباً... فأرحنا أنفسنا من شقاء يُصرُّ الكثير عليه؛ فالله عز وجل:
أرحم... وأخبرُ... وأحكم... و أعلم بنا وبما يصلحنا وينفعنا ... شريعتُنا ليست من وضع بشر جهلاء... قاصرين... أبناء جيلهم وزمانهم... بل هو من عند العليم الخبير سبحانه وتعالى...
الآن ستدخلون المسجد... فتجدون -الفاروق- أمير المؤمنين... يؤم المصلين... دون حَرَسِ... ولا حُجَّا ... لا يخاف من أحدٍ؛ لأنه لم يظلم... وهو يتمني أن يقوم أي رجلٍ من المسلمينً... فيكفيه هَمّ الأمارة والحُكْم... قال فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً ( طريقاً ) إلا سلك فجاً غير فجك» [البخاري].
نعرف عنه كل صغيرة وكبيرة... معيشته: أبسط... وأزهد... من أي إنسان مسلم آخر...
أنزل نفسه من بيت مال المسلمين بمنزلة ولي اليتيم... إن افتقر أخذ ما يكفيه وإن استغنى اسْتَعْففَ يحرس أمْنَ الناس بالليل ويقوم على شؤونهم في النهار لا ينام إلا قليلاً، قال بعد وفاة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "رحمك الله لقد أتعبت من جاء بعدك" [رجالة ثقات].
حمل-مرة- إليه رضي الله عنه، مالٌ عظيم من الغنائم، فقال: "إن قوماً أدوا الأمانة في هذا لأمناء"، فقال له بعض الحاضرين: "إنك أديت الأمانة إلى الله تعالى، فأدوا إليك الأمانة، ولو رتعت رتعوا" [السياسة الشرعية- ابن تيمية].
***
نحن في مجتمع: متعاون... متباذلٍ... كل يعطي الحق من نفسه... ويتجاوز في كثيرٍ من الأحوال عن حقه للآخر... ابتغاء الأجر والثواب... يمر بنا عام كامل... ولا تُرفع خصومة إلى القاضي.... يخرج أحدنا بصدقة ماله... فلا يجد من يأخذها: عفة... وكفاية ...
الرجال خير الناس لأهلهم... والنساء خير الأزواج لرجالهم... إذا دخل الرجل إلى بيته... فقد تجدد لون جديد من: المتعة ... والسعادة ... يختلف عن سعادة المجتمع الذي نحياه؛ فالأزواج لا ينسون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله» [صححه الترمذي]؛ كما أن النساء لا ينسين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو كنت أمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» [صححه الألباني].
ولذلك أقول لكم -أيها الأحبة- لا تحرموا أنفسكم من هذا النعيم... من أن تعيشوا في ظل منهج الله تبارك وتعالى... واسألوا من جرب...!!؟؟؛ فمن ذاق عرف...
وبعد أن وصلنا إلى المسجد... وانتهت الصلاة... وانتهينا من السلام على حبيب الرحمن... حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم... وبعد جولة قصيرة في: الشوارع... والأزقة والأسواق المحيطة...
قرأنا -خلالها- الرضا والسرور في وجوه الناس: زرنا الأسواق البسيطة المتواضعة التي تعكس مدى زهد الناس وتخففهم من وسائل العيش كانت عامرة بالسلع والمواد البسيطة مليئة بالأمن والأمان فلا غش ولا خداع... ولا تدليس، يتبايع الناس بدون خوف من الغبن والتطفيف في المكيال...!!
مُعظم رواد الأسواق من الرجال، الذين يكثرون من السلام ورده... النساء نادرات وإن وجدت إحداهن... فإما أن تكون بصحبة زوجها أو رجل من محارمها، أو مجموعة من النساء يسرن وكأنهن الغرابيبُ السود... لا يُرى منهنَّ شيءٌ... وربما كشفت إحداهنَّ عن عينٍ واحدة لترى طريقها...!!
***
كان الوقت الذي بجري فيه جوْلَتَنا بعد أداء صلاةِ الفريضة فبعض الدكاكين لم تفتح بعد... لأن أصحابها لم ينتهوا من صلاتهم في غالب الظن... والبعض قد انتهى وفتح دكانه.
فأما الدكاكين المغلقة لم تكن مغلقة كما يتصور أحدنا في هذه الأيام.. أقفال ضخمة وأرقام سرية وكمرات مراقبة وضباط أمن على أبواب المجمعات وغيرها من المظاهر؛ فهم ليسوا بحاجة إلى هذه الأساليب التي لم تكن مخترعة بعد... لأنهم يعيشون في مجتمع يخاف الله سبحانه وتعالى ويطبق الحدود ... فربما كان علامة إغلاق الدكان أن صاحبه غيرُ موجود فيه.
حتى الأطفال يلعبون ويركضون بدون خوف ولا وجل لأنهم يعيشون في مجتمع مسلم يراقب الله عز وجل...
وقد استوقفنا مشاهد مؤثرة ومتكررة:
- كم رأينا من رجل يعين خادمه في قضاء شأنه.
- وكم رأينا من رجل يحاول أن يختلس من أعين الناس التفاتة ليدس صدقة بيد مسكين أو فقير يبتغي بها البعد عن أعين الناس إخلاصاً لله تعالى..
- وكم رأينا من رجل ينصح أخاه ويوجهه في السر والخفاء وهو يبتسم في وجه أخيه.
- وكم رأينا من رجل يتعانق رجلاً آخر لعله قدم من سفر أو تجارة.
- وكم رأينا من رجل ينصح رجلا آخر أن يشتري من عند جاره لأن بضاعته أجود من تلك الموجودة عنده.
- وكم رأينا من رجل يجهر بالذكر الوارد عند دخول السوق ابتغاء الأجر والمثوبة وتعليماً وتذكيراً لإخوانه المسلمين.
- ورأينا رجلين كأنهما يتخاصمان وعندما اقتربنا منهما تبين لنا أنهما مشتر وبائع، فالبائع يريد أن يحط من السعر والمشتري يقول له: "هذا قليل، لا، خذ أكثر فبضاعتك جيدة.... تساوي أكثر من ذلك...
***
مشاهد ولقطات وصور رائعة جعلتنا نتمنى أن نكون من أبناء ذلك الجيل، أو رثتنا تلك الرحلة سعادة هائلة في نفوسنا ومزيداً من الغبطة أن جعلنا الله عز وجل من المسلمين.
كما أنها جعلتنا نتألم على واقعنا وحالنا الذي نعيش فيه ونشعر بمقدار الخسارة الفادحة عندما ابتعدنا عن ديننا وشرعنا وقرآننا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
بعد تلك الرحلة الفريدة السعيدة تهيأنا للعودة...
تهيأنا للعودة إليكم -يا أبناء زماننا- بنفس الآلة التي سافرنا بها... لننقل لكم هذه الرسالة... من عاصمة الخلافة الإسلامية... المدينة النبوية في عصور الإسلام الزاهرة... عصر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه... ونحن في هذه الأوضاع المزرية.
نسأل الله عز وجل... أن ينفع بهذه الرسالة - كل مسلم ومسلمة - على وجه الأرض، إنه ولي ذلك والقادر عليه.... وجزاكم الله خيراً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مركز وذكر