السؤال:
ما تفسير قوله تعالى : ( ففروا إلى الله إنني لكم منه نذير مبين )، ولماذا
لم يصدّر الآية بكلمة ( قل ) كما في كثير من الآيات ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
هذه الآية من أعظم آيات القرآن الكريم
تجمع معاني الخوف والرجاء :
الخوف من الله تعالى
واللجوء إليه سبحانه
إذ
لا منجا منه إلا إليه عز وجل ، أمر بالفرار منه إليه ليدل العباد على أنه
أرحم بهم من كل من سواه ، وأنه عز وجل يريد بالعباد الرحمة والمغفرة . وفي "
مدارج السالكين " (1/469-481) للعلامة ابن القيم كلام مطول مفيد عن منزلة "
الفرار " من منازل السائرين .
يقول الله تعالى : ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) الذاريات/50.
قال الإمام الطبري رحمه الله :
" يقول تعالى ذكره :
فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به
واتباع أمره
والعمل بطاعته
(
إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ ) يقول : إني لكم من الله نذير أنذركم عقابه
، وأخوّفكم عذابه الذي أحلَّه بهؤلاء الأمم الذين قصّ عليكم قصصهم ، والذي
هو مذيقهم في الآخرة . وقوله : ( مُبِينٌ ) يقول : يبين لكم نذارته "
انتهى.
" جامع البيان " (22/440)
وقال القرطبي رحمه الله :
"
لما تقدم ما جرى من تكذيب أممهم لأنبيائهم وإهلاكهم لذلك ، قال الله تعالى
لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم يا محمد ، أي قل لقومك : ( ففروا إلى
الله إني لكم منه نذير مبين ) أي : فروا من معاصيه إلى طاعته .
وقال ابن عباس : فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم . وعنه : فروا منه إليه واعملوا بطاعته .
وقال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان : ( ففروا إلى الله ) اخرجوا إلى مكة .
وقال الحسين ابن الفضل : احترزوا من كل شيء دون الله ، فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه .
وقال أبو بكر الوراق : فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن .
وقال الجنيد : الشيطان داع إلى الباطل ، ففروا إلى الله يمنعكم منه .
وقال ذو النون المصري : ففروا من الجهل إلى العلم ، ومن الكفر إلى الشكر .
وقال عمرو بن عثمان : فروا من أنفسكم إلى ربكم .
وقال أيضا : فروا إلى ما سبق لكم من الله ، ولا تعتمدوا على حركاتكم .
وقال سهل بن عبد الله : فروا مما سوى الله إلى الله .
( إني لكم منه نذير مبين ) أي : أنذركم عقابه على الكفر والمعصية " انتهى.
" الجامع لأحكام القرآن " (17/53-54)
وقال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
"
لما دعا العباد للنظر لآياته الموجبة لخشيته والإنابة إليه ، أمر بما هو
المقصود من ذلك ، وهو الفرار إليه أي : الفرار مما يكرهه الله ظاهرًا
وباطنًا ، إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا ، فرار من الجهل إلى العلم ، ومن
الكفر إلى الإيمان ، ومن المعصية إلى الطاعة ، و من الغفلة إلى ذكر الله ،
فمن استكمل هذه الأمور فقد استكمل الدين كله ، وقد زال عنه المرهوب ، وحصل
له نهاية المراد والمطلوب .
وسمى الله الرجوع إليه فرارًا : لأن في
الرجوع لغيره أنواع المخاوف والمكاره ، وفي الرجوع إليه أنواع المحاب
والأمن والسعادة والفوز ، فيفر العبد من قضائه وقدره إلى قضائه وقدره ، وكل
من خفت منه فررت منه ، إلا الله تعالى ؛ فإنه بحسب الخوف منه ، يكون
الفرار إليه
( إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) ؛ أي : منذر لكم من عذاب الله ، ومخوف بَيِّنُ النذارة " انتهى.
" تيسير الكريم الرحمن " (ص/811)
ثانيا :
أما
كلمة ( قل ) فقد وردت في آيات كثيرة في القرآن الكريم ، عددها نحو العشرة
وثلاثمائة آية ، وذلك في سياقات متعددة ، ومواقف كثيرة ، ومعان عديدة ، غير
أن ذلك لا يعني أن كل أمر يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغه
للناس لا بد وأن يبدأ بكلمة ( قل ) ، فللقرآن أسلوبه المعروف ، ولغة العرب
تسع ألوانا عديدة من البيان البليغ ، والتفنن في الأساليب هو من وجوه
جمالها وتميزها .
وحول هذه الكلمة المذكورة بخصوصها ، يقول الدكتور فضل حسن عباس :
"
أما كلمة ( قل ) فالمتدبر لآي القرآن وأسلوبه يجد أنها تأتي حينما تدعو
الحاجة إليها ، وذلك حينما يكون الأسلوب أسلوبا تلقينيا ، سواء كان هذا
التلقين تعليميا أم ردا على شبهات ، وذلك كما في السور الأخيرة الثلاث ،
الإخلاص والمعوذتين ، وكما في الآيات التالية : ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ
وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ
رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ
رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) الأنعام/14-16.
( قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ
عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ
كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ) الأنعام/46، ( قُلْ
إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . قُلْ
إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ) الأنعام/161-162
والمتأمل في هذه الآيات الكريمة لا يرتاب في أنها جاءت في سياق خاص تلقينا وتعليما " انتهى.
"قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية " (ص/57).
ومن
المهم أن نعلم أن التماس مثل هذه الحكم : إنما هو أمر اجتهادي ؛ قد يأتي
باحث آخر بحكمة أخرى مع هذه ، أو هي أرجح وأولى ، ومثل هذه الأمور تحتاج
إلى تتبع إلى أساليب القرآن في التعبير ، والسياقات المختلفة التي وردت
فيها الكلمة ، لالتماس محلها من البلاغة ، وتعرف الحكمة في ورودها .
وفوق كل ذي علم عليم .