لسان الحسود
لَمّا رَمَتْ زُمرةُ المنافقين أمَّ المؤمنين بِما
رَمَتْها بهِ مِن الإفك والبُهْتَان ، وأنْزَل الله براءتها مِن فوق سَبْع
سماوات ، فـ " غَضِب الله على الذين رَمَوا أمَّ المؤمنين عائشة بنتَ
الصدّيق زَوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنْكَر على المؤمنين الذين
تَكَلَّمُوا بهذا وأشَاعُوه " ، وقال الله عَزّ وَجَلّ في شأن ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) .
قال
ابن جرير الطبري في تفسيره : يَقُولُ : لاَ تَظُنُّوا مَا جَاءُوا بِهِ
مِنَ الإِفْكِ شَرًّا لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ ، بَلْ
ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَهُ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ
اللَّهَ يَجْعَلُ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِلْمَرْمِيِّ بِهِ ، وَيُظْهِرُ
بَرَاءَتَهُ مِمَّا رُمِيَ بِهِ ، وَيَجْعَلُ لَهُ مِنْهُ مَخْرَجًا . اهـ .
وقال
القرطبي في تفسيره : والْخَير حَقيقته ما زاد نَفعه على ضرّه . والشَّرّ
ما زاد ضرّه على نَفعه . وإن خيرا لا شَرّ فيه هو الجنة . وشَرًّا لا خَير
فيه هو جهنم . فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير ؛ لأن ضَرَره مِن
الألم قليل في الدنيا ، وخَيره هو الثواب الكثير في الأُخْرى . فَنَـبَّه
الله تعالى عائشة وأهلها وصَفْوان ، إذْ الْخِطَاب لهم في قوله : (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ؛ لِرُجْحَان النفع والخير على جانب الشَّرّ . اهـ .
ومِن الخير أن ترتفع درجات مَن رُمِي بالبُهْتَان ، إذ البلاء تمحيص الإيمان ..
وفي الـتَّنْزِيل : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ؟
ومِن الخير أن لا ينقطِع عَمَل مَن يُقال فيه ما يُقال مِن الكذب والبُهْتان .
قَالَتْ
عَائِشَةُ لِعُروة : يَا ابْنَ أُخْتِي ، أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبُّوهُمْ .
رواه مسلم .
ومِن الخير أن تنكشف حقائق القوم بِكُلّ وُضوح وجَلاء ..
وَصَدَق الله : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) .
ومِن الخير أن يَمِيز الله الخبيث مِن الطَّيب ، كما قال تعالى : (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) .
إذا اشتبكت دموع في خُدود *** تَبَيَّنَ من بَكى ممن تباكى
تبيَّن الْمُحبّ الصَّادِق لِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِن الدَّعِيّ الْمُدَّعِي !
ومِن الخير أن تظهر سبيل الْمُجْرِمِين واضِحة جَلِيَّـة لا تَخْفَى على أعمى !
قال الله عَزّ وَجَلّ : (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) .
قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ)
: مَيَّزْنَاهَا لَكَ وَبَيَّنَّاهَا ، كَذَلِكَ نُفَصِّلُ لَكَ
أَعْلاَمَنَا وَأَدِلَّتِنَا فِي كُلِّ حَقٍّ يُنْكِرُهُ أَهْلُ الْبَاطِلِ
مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ غَيْرِهِمْ ، فَنُبَيِّنَهَا لَكَ حَتَّى
تُبَيِّنَ حَقَّهُ مِنْ بَاطِلِهِ ، وَصِحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِهِ . اهـ .
وأن يُفيق دُعاة التقارُب مع الأفاعي والعقارِب ! وأننا مَا سَالَمْنَاهُنّ منذ حَارَبْنَاهنّ !
ويُقال
لهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ
دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ
الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ
بَيَّنَّا لَكُمُ الآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ..
.. إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ..
وتَجَلّى نفاق بعض الصُّحُف والكُتَّاب .. الذين التَزموا الصمت تجاه هذا الْخَطْب الْجلل !
فماذا عساهم يقولون ؟
ماذا عسى أُغَيْلِمة الصحافة وسفهاء قَومي يَقولون عن زملاء المهنة ؟!
وإن شئت قُل : عن زملاء الباطِل !
وما
تَفَوّه به أعداء المؤمنين وأعداء أمهاتهم – رِضوان الله عليهن – ليس
شرًّا محْضًا ، إذ استبانَتْ سبيل الْمُجْرِمِين لكل مَن كان مَخْدُوعًا
بأولئك الأرجاس .. ومَن كان يضرِب الطَّبْل وتَرْتَفِع أكُفّه تَصْفِيقًا
لِحِزْب اللات والعُزّى !
وليس شرًّا مَحْضًا .. إذْ حَمَلوا الناس على إعادة ذِكْر أم المؤمنين ذِكْرًا عَطِرًا ..
صُدِح به في المنابر ، وشُنِّفت به الأسماع ، ودُعِيتْ به الْمَحَابِر .. وعُطِّرَت به المجالس والمنتديات ..
فَكَم هي الحملات التي رُفِعَتْ راياتها دِفاعًا عن أم المؤمنين .. وتِبْيانًا لِفَضَائلها ، وذِكْرًا لِشَمَائلها ؟
وصدَق أبو تمّام إذ يقول :
وإِذَا أَرادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضيلَة ٍ*** طُوِيَتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ
لَوْلاَ اشتعَالُ النَّارِ فيما جَاوَرَتْ *** ما كَانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرْف العُودِ
وقول
الله أصدق وأبلغ : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ
وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ
وَهُمْ كَارِهُونَ) .
(وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ) أي دَبَّرُوها من كل وجه ، فأبْطَل الله سَعْيَهم . كما قال ابن جُزيّ .
كتبه / عبدالرحمن بن عبدالله السحيم