معركة الإسلام على مدى التاريخ
سيد قطب
إن المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. ولكن هذا لا ينفي أن موقف المشركين من المسلمين كان دائما هو الذي بصورة هذه الآيات: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [سورة التوبة: 8-10].
لقد كان هذا هو الموقف الدائم للمشركين وأهل الكتاب من المسلمين، وسنتكلم أولا عن المشركين ثم عن أهل الكتاب:
وإذا نحن اعتبرنا أن الإسلام لم يبدأ برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما ختم بهذه الرسالة، وأن موقف المشركين من كل رسول ومن كل رسالة من قبل إنما يمثل موقف الشرك من دين الله على الإطلاق، فإن أبعاد المعركة تترامى، ويتجلى الموقف على حقيقته، كما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة، على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء!.
ماذا صنع المشركون مع نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، وشعيب، وموسى، عليهم صلوات الله وسلامة والمؤمنين بهم في زمانهم؟ ثم ماذا صنع المشركون مع محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به كذلك؟ .. إنهم لم يرقبوا فيهم إلاٍ ولا ذمة متى ظهروا عليهم وتمكنوا منهم..
وماذا صنع المشركون بالمسلمين أيام الغزو الثاني للشرك على أيدي التتار؟، ثم ماذا يصنع المشركون والملحدون اليوم بعد أربعة عشر قرنا بالمسلمين في كل مكان؟،.. إنهم لا يرقبون فيهم إلاٍ ولا ذمة، كما يقرر النص القرآني الخالد..
عندما ظهر الوثنيون التتار على المسلمين في بغداد وقعت المأساة الدامية التي سجلتها الروايات التاريخية والتي نكتفي فيها بمقتطفات سريعة من تاريخ أبي الفداء (ابن كثير) المسمى (البداية والنهاية) فيما رواه من أحداث عام 656هـ:
"ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان. ودخل كثير من الناس في الآبار، وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أيام لا يظهرون. وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر أو بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسلحة حتى ترى الميازيب من الدماء في الأزقة فإنا لله و إنا له راجعون - كذلك في المساجد والجوامع والربط. ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار اخذوا أمانا بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم.
وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب، ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.. وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الموقعة. فقيل ثمانمائة ألف. وقيل ألف ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس - فإنا لله و إنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم - وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوما.. وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء الرابع عشر من صفر، وعفي قبره وكان عمره يومئذ ستا وأربعين سنة وأربعة أشهر ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام.. وقتل معه ولده الأكبر أبو العباس أحمد، وله خمس وعشرون سنة. ثم قتل ولده الأوسط أبو الفضل عبد الرحمن وله ثلاث وعشرون سنة، وأسر ولده الأصغر مبارك وأسرت أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم..
وقتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقتل أولاده الثلاثة: عبدا لله وعبد الرحمن وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحد بعد واحد. منهم الدويدار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد.. وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه.. وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي ابن النيار. وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن. وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد..".
"ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما، بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون. فإنا لله و إنا إليه راجعون..".
"ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقني والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضا، فلا يعرف الوالد ولده، والأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى..".
هذه صورة من الواقع التاريخي، حينما ظهر المشركون على المسلمين فلم يرقبوا فيهم إلاٍ ولا ذمة.
فهل كانت صورة تاريخية من الماضي البعيد الموغل في الظلمات، اختص بها التتار في ذلك الزمان؟
كلا... إن الواقع التاريخي الحديث لا تختلف صورة عن هذه الصور!.. إن ما وقع من الوثنين الهنود عند انفصال باكستان لا يقل شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد.. إن ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند -ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة على المسلمين الباقين في الهند فأثروا الهجرة على البقاء - قد وصل منهم إلى أطراف باكستان ثلاثة ملايين فقط!!
أما الملايين الخمسة الباقية فقد قضوا في الطريق.. طلعت عليهم العصابات الهندية المنظمة المعروفة للدولة الهندية جيدا والتي يهيمن عليها ناس من الكبار في الحكومة الهندية، فذبحتهم كالخراف على طول الطريق، وتركت جثثهم نهبا للطير والوحش بعد التمثيل بها ببشاعة منكرة لا تقل - إن لم تزد - على ما صنعه التتار بالمسلمين من أهل بغداد!..
أما المأساة البشعة المروعة المنظمة فكانت في ركاب القطار الذي نقل الموظفين المسلمين في أنحاء الهند إلى باكستان، حيث تم الإنفاق على هجرة من يريد الهجرة من الموظفين المسلمين في دوائر الهند إلى باكستان، واجتمع في هذا القطار خمسون ألف موظف.. ودخل القطار بالخمسين ألف موظف في نفق بين الحدود الهندية الباكستانية.. وخرج من الناحية الأخرى وليس به إلا أشلاء ممزقة متناثرة في القطار!!
لقد أوقفت العصابات الهندية الوثنية المدربة الموجهة القطار في النفق، ولم تسمح له بالمضي في طريقة إلا بعد أن تحول الخمسون ألف موظف إلى أشلاء ودماء!. وصدق قول الله سبحانه: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّة}.. وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى حتى الآن..
ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك؟،.. لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن ستة وعشرين مليونا.. بمعدل مليون في السنة.. وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق.. ذلك غير وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر لهولها الأبدان. لقد جيء بأحد الزعماء المسلمين، فحفرت له حفرة في الطريق العام، وكلف المسلمون تحت وطأة التعذيب والإرهاب، أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية - التي تتسلمها الدولة من الأهالي جميعا لتستخدمها في السماد مقابل ما تصرفه لهم من الطعام!!- فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته.. وظلت العملية ثلاثة أيام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات!.
كذلك فعلت يوغوسلافيا بالمسلمين فيها. حتى أبادت منهم مليونا منذ الفترة التي صارت فيها شيوعية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، وما تزال عمليات الإبادة والتعذيب الوحشي - التي من أمثلتها البشعة إلقاء المسلمين في (مفارم) اللحوم التي تصنع لحوم (البولوبيف) ليخرجوا من الناحية الأخرى عجيبة من اللحم والعظام والدماء - ماضية إلى الآن!!.
وما يجري في يوغوسلافيا يجري في جميع الدول الشيوعية والوثنية.. الآن.. في هذا الزمان.. ويصدق قول الله سبحانه: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً}، {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ}..
هذا ما كان من شأن الوثنين حينما ظهروا على المسلمين، فماذا كان من شأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى؟
فأما اليهود فقد تحدثت شتى سور القرآن عن مواقفهم وأفاعيلهم وكيدهم وحربهم، وقد وعى التاريخ من ذلك كله مالم ينقطع لحظة واحدة منذ اليوم الأول الذي واجههم الإسلام في المدينة حتى اللحظة الحاضرة!.
ولسنا هنا في مجال عرض هذا التاريخ الطويل، ولكننا سنشير فقط إلى قليل من كثير من تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله على مدار التاريخ..
لقد استقبل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولا يعرفون صدقه، ودينا يعرفون أنه الحق..
استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود.. شككوا في رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهم يعرفونه، واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو، وبالتهم والأكاذيب. وما فعلوه في حادث تحويل الكعبة، وما فعلوه في حادث الإفك، وما فعلوه في كل مناسبة ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم.. وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم، وسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير..
{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.. [البقرة: 89-90]
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.. [سورة البقرة: 101].
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.. [سورة البقرة: 142].
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران: 70-71].
{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سورة آل عمران: 72].
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [سورة آل عمران: 78].
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة آل عمران: 98-99].
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَات..} [سورة النساء: 153].
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.. [سورة التوبة: 32].
كذلك شهد التاريخ نقض اليهود لعهودهم مرة بعد مرة وتحرشهم بالمسلمين، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر. كما شهد تأليب اليهود للمشركين في الأحزاب مما هو معروف مشهور. ثم تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ.. كانوا عناصر أساسية في إثارة الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير.. وكانوا رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي - رضي الله عنه - ومعاوية.. وقادوا حملة الوضع في الحديث والسيرة وروايات التفسير.. وكانوا من الممهدين لحملة التتار على بغداد وتقويض الخلافة الإسلامية..
فأما في التاريخ الحديث فهم وراء كل كارثة حلت بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض، وهم وراء كل محاولة لسحق طلائع البعث الإسلامي، وهم حماة كل وضع من الأوضاع التي تتولى هذه المحاولة في كل أرجاء العالم الإسلامي!.
ذلك شأن اليهود، فأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب فهو لا يقل إصرارا على العداوة والحرب من شأن اليهود!
لقد كانت بين الرومان والفرس عداوات عمرها قرون.. ولكن ما إن ظهر الإسلام في الجزيرة، وأحست الكنيسة بخطورة هذا الدين الحق على ما صنعته هي بأيديها وسمته.. (المسيحية) وهو ركام من الوثنيات القديمة، والأضاليل الكنسية، متلبسا ببقايا من كلمات المسيح- عليه السلام - وتاريخه .. حتى رأينا الرومان والفرس ينسون ما بينهم من نزاعات تاريخية قديمة، وعداوات وثارات عميقة ليواجهوا هذا الدين الجديد.
ولقد أخذ الروم يتجمعون في الشمال هم وعمالهم من الغساسنة لينقضوا على هذا الدين، وذلك بعد أن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عامل بصري من قبل الروم، وكان المسلمون يؤمنون الرسل ولكن النصارى غدروا برسول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتلوه مما جعل رسول الله يبعث بجيش الأمراء الشهداء الثلاثة زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدا لله بن رواحه، في غزوة (مؤتة) فوجدوا تجمعا للروم تقول الروايات عنه: إنه مائة ألف من الروم ومعهم من عملائهم في الشام من القبائل العربية النصرانية مائة ألف أخرى، وكان جيش المسلمين لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل. وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة.
ثم كانت غزوة تبوك التي يدور عليها معظم سورة التوبة. ثم كان جيش أسامة بن زيد الذي أعده رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قبيل وفاته، ثم أنفذه الخليفة الراشد أبو بكر - رضي الله عنه - إلى أطراف الشام، لمواجهة تلك التجمعات الرومانية التي تستهدف القضاء على هذا الدين، ثم اشتعل مرجل الحقد الصليبي منذ موقعة اليرموك الظافرة، التي أعقبها انطلاق الإسلام لتحرير المستعمرات الإمبراطورية الرومانية في الشام ومصر وشمال أفريقية وجزر البحر الأبيض، ثم بناء القاعدة الإسلامية الوطيدة في الأندلس في النهاية.
إن (الحروب الصليبية) المعروفة بهذا الاسم في التاريخ لم تكن هي وحدها التي شنتها الكنيسة على الإسلام.. لقد كانت هذه الحروب مبكرة قبل هذا الموعد بكثير .. لقد بدأت في الحقيقة منذ ذلك التاريخ البعيد .. منذ أن نسي الرومان عداوتهم مع الفرس، وأخذ النصارى يعينون الفرس ضد الإسلام في جنوب الجزيرة. ثم بعد ذلك في (مؤتة) ثم فيما تلا موقعة اليرموك الظافرة.. ثم تجلت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس عندما زحفت الصليبية على القاعدة الإسلامية في أوربا، وارتكبت من الوحشية في تعذيب ملايين المسلمين وقتلهم هناك ما لم يعرف التاريخ له نظيرا من قبل .. وكذلك تجلت في الحروب الصليبية في الشرق بمثل هذه البشاعة التي لا تتحرج ولا تتذمم، ولا تراعي في المسلمين إلا ولا ذمة..
ومما جاء في كتاب (حضارة العرب) لجوستاف لوبون وهو فرنسي مسيحي: "كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين ثلاثة آلاف أسير سلموا أنفسهم إليه، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم، ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب، عن بكرة أبيهم فقتل منهم اثنا عشر ألفا وألقى الأربعة الآلاف الباقون في البحر منفيين من الجزيرة!، ويكفي أن نذكر ماذا وقع في قبرص، حين منع الطعام والماء عن الجهات التي يقطنها بقايا المسلمين هناك ليموتوا. أثار صلاح الدين الأيوبي النبيل الذي رحم نصارى القدس، فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأدوية والأزواد أثناء مرضهما".
كذلك كتب كاتب مسيحي آخر اسمه (يورجا)2 يقول:
"ابتدأ الصليبون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها. وقد أسرفوا في القسوة فكانوا يبقرون البطون، ويبحثون عن الدنانير في الأمعاء! أما صلاح الدين فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبين، ووفى لهم بجميع عهوده، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطؤوهم مهاد رأفتهم، حتى أن الملك العادل شقيق السلطان، أطلق ألف من الأسرى ومنّ على جميع الأرمن، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة، وأبيح للأميرات والملكة بزيارة أزواجهن".
ولا يتسع المجال هنا لاستعراض ذلك الخط الطويل للحروب الصليبية - على مدى التاريخ - ولكن يكفى أن نقول: إن هذه الحروب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية. ويكفي أن نذكر ماذا حدث في زنجبار حديثا حيث أبيد المسلمون فيها عن جوعا وعطش، فوق ما سلط عليهم من التقتيل والتذبيح والتشريد!. ويكفي أن نذكر ما تزاوله الحبشة في أريترية وفي قلب الحبشة، وما تزاوله كينيا مع المائة ألف مسلم الذين ينتمون إلى أصل صومالي ويريدون أن ينضموا إلى قومهم المسلمين في الصومال!!، ويكفي أن نعلم ماذا تحاوله الصليبية في السودان الجنوبي!!
ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944 يقول فيه:
"لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة ولكنا بعد اختبار لم نجد مبررا لمثل هذا الخوف.. لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر، والخطر البلشفي. إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه!!، إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد!!، ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا. أما الشعوب الصفراء فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها. ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قوته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته.. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي"!!...
=============================
1 - ذلك أن اليهود والنصارى (من أهل الذمة) كانوا ممن كاتب التتار لغزو عاصمة الخلافة والقضاء على الإسلام والمسلمين فيها، وممن دلوا على عورات المدينة وشاركوا مشاركة فعلية في هذه الكارثة، واستقبلوا التتار الوثنيين بالترحاب، ليقظوا لهم على المسلمين الذين أعطوهم ذمتهم ووفروا لهم الأمن والحياة.
2 - نقلا عن كتاب، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام للأستاذ علي منصور.
3 - من كتاب جورج براون نقلا عن كتاب: التبشير والاستعمار في البلاد العربية للدكتور مصطفى خالدي، والدكتور عمر فروخ.
المصدر: من إصدارات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة