الحمد الله الذي أحاط بكل شيء علما ، ووسع كل شيء حفظا ، يعلم بواطن
البحار وذرات الرمال ، لا يعزب عنه مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء
، ولا تحت أطباقِ الجبال ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
عالمُ الغيبِ والشهادةِ الكبيرُ المتعال وأشهد أن محمدا عبدُه ورسولُه
صلى الله عليه وعلى صحبه وآله خيرِ آل ، صلاةً دائمة بالغدو والآصال ،
أما بعد :
في مسيرةِ السائرينَ إلى الله ، والحاثِّين خُطاهم على مِنهاجه وسبيل
هداه ، والداعين إلى دينه القويم ، والتمسُّكِ بصراطه المستقيم ، في
سيرهم ومسيرهم عقباتٌ كعْداء ، وخصومٌ ألدَّاء ، ولأواءٌ وأدواء ، لا
يخْلُصُ منها إلا من أراد الله له الثبات ، وإن المتأمل في التاريخ
يرى في فتراتٍ منه ، غلبتَ الإسلامِ وظهورَه وعزَّ المسلمين ، وفي
فترات أخرى يرى انحسار مدِّه وهيمنةَ غيرِ المسلمين ، ويرى ضعفا
داخليا ، وهوانا خارجيا ، وتداعيا من الأمم ، وتسلُطا من الكفار ، كما
هو واقع هذه الحِقبةِ من الزمن حتى إنه ليكادُ يتسللُ اليأسُ والإحباط
إلى نفوسِ بعض المسلمين ، ويتساءل الحائر : ألم يكتُبِ الله العزةَ
والنُصرةَ لهذه الأمة والصغارَ والذلةَ على الكافرين ؟
وينسى هذا المتسائل قول الله عز وجل { هو
الذي خلق الموت والحياةَ ليبلوكم أيكم أحسن عملا } وما
يماثلُها من الآياتِ الكريمة التي تبين أن هذه الدار ، دارُ ابتلاء
وامتحان للمؤمنين وليست دارَ جزاء وخلود ، وأن الأيامَ دول ، والدهرّ
قُلَّب ، وأن الفوزَ والفلاح ليس بتحصيلِ الرخاء فحسب ، وإنما عملك في
الشدةِ والرخاءِ والمنشطِ والمكره { ولنبلونكم
حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين
ونبلوا أخباركم } { وجعلنا بعضَكم
لبعض فتنةٍ أتصبرون وكان ربك بصيرا } { ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضَكم
ببعض }
يقول بن القيم رحمه الله تعالى " إن في تمكينِ أهل الكفرِ والفسوق
إيصال أولياءِ الله إلى الكمال الذي يحصُلُ لهم بمعاداةِ هؤلاء
وجهادِهم والإنكارِ عليهم والموالاةِ فيه والمعاداةِ فيه وبذلِ
نفوسِهم وقُواهُم له ... إلى أن قال : فلولا خلق الأضداد وتسليطُ
أعدائه ، وامتحانُ أولياءِه ، لم يستخرجْ خاصَّ العبوديةِ من عبيده ،
ولم يحصُل لهم عبوديةُ المولاةِ فيه والمعاداةِ فيه ، والحبِّ فيه
والبغضِ فيه ، والعطاءِ له والمنعِ له .."
أيها الكريم المبارك : وإذا كان قدرُ الله لجيلٍ من الأمة أن يعيشوا
في مرحلةٍ من ضعفها وفترةٍ من فتورها ، وظهورِ غيرها عليها ، فإن
المتعيِّنَ التعلُّقُ بما يثبتُها على دينها لأن الإسلامَ في زمان
قوته ، كفيلٌ بذاته في ثباتِ أهله ، أما في زمنِ الانكسار وعهدِ
الانحسار ، فهذا هو زمنُ الإبتلاء الذي يُميزُ الله فيه الخبيثَ من
الطيب ، والصادقَ من الكاذب والمؤمنَ من المنافق ، وكلَّما زادَ الضعف
وكثرة الفتن ، كلَّما استطال عنُقَ النفاق وظهرَ المنافقون ، وربما
جاهروا في قلوبهم وأظهروا خفايا صدورهم ، وإليك أخي الكريم أسبابا
تعينك بعد الله عز وجل على الثبات على دين الله حتى تلقاه :
أولا : تجديدَ الإيمانِ بهذا الدين ، وملأَ القلبِ منه باليقين ، نعم
.. اليقينُ التامُ بصدقِ وأحقِّيةِ ما نحن عليه ، والإيمانُ الجازمُ
بصواب ما نعتقده ، فمن امتلأ قلبه إيمانا بعقيدته وقناعةً بصحةٍ منهجه
، لم تُزعزعه الخطوب ، ولم تُثنه الكروب ، وهذا هو موقفُ النبيُ صلى
الله عليه وسلم في دعوته ، حين حاربه الأقاربُ قبل الأباعد ، وطوردَ
وشرِّد ، وحوصرَ وقوطع ، وطلبَ للقتل واجتمع عليه الأحزاب ، لكن ذلك
لم يُثنه عن مراده ، حتى بلَّغ دين الله ، وكذلك كان أصحابه رضوانُ
الله تعالى عليهم ، قُيِّدوا بالحديد ، وقُطعت أجساد بعضهم ، وصلبَ
آخرون ، وأُذو ، ومستهم البأساء والضراء وزلزلوا ، فلم يزدهم ذلك إلا
صلابةً في دينهم ، وثباتا على منهجهم ، وصدقا في سيرهم إلى الله حتى
لقوا ربهم على ذلك
{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله
عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا }
وهذا نتاجُ الإيمانِ واليقين ، والقناعةِ والتصديق ، والثقةِ بما هم
عليه ، وكذلك كان السلفُ الصالحُ بعدهم ، ويكفيك مثالا ثباتُ الإمام
أحمدَ رحمه الله عند الفتنة ، وما ذاك إلا بالعقيدةِ الراسخة بما
يؤمنُ به من صواب ، أما أهلُ الخَورِ والشك وضعيفي الإيمان فهم الذين
إذا أصابتهم مصيبة رجعوا على دينهم باللائمة ، يُقلبونَ بحيرةٍ في
ثوابته ولو كانوا يعقلون لتفقدوا أنفسهم كيفَ يدينون ، لعلموا أن دينَ
الله كامل ، وأنْ لا صلاحَ حقيقةً بغيره في كلِّ زمان ومكان ، بلا
استثناء ولا تجزئة { اليوم أكملت لكم
دينَكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }
{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل
منه وهو في الآخرة من الخاسرين }
إلا أن النقصَ يحصُل من أحدِ أمرين : إما عجزٌ وجهل عن تطبيقهِ
التطبيقَ الصحيح أو لأجلِ شهوة وهوى يمنعانِ إرادةَ التطبيق في أيِّ
تفاصيلِ الحياة مهما صغُرت أو كبُرت ، وعلى هذا المركبين الجهلِ
والهوى أسرجَ بعض المنافقين بِغالهم فشدوا على الإسلامِ وأهله ،
وأظهروا مكنونَ صدروهم وما كانت تُخفي قلوبُهم ، في وقتٍ أحوجُ ما
تكونُ فيه الأمةُ إلى تثبيتِها على دينها والمحافظةِ على إسلامها
وهُويتِها وتماسُكِها ووحدتِها .
إن المجتمع بجميعِ طبقاته ، بحاجةٍ إلى إعادةِ الإهتمام بتقريرِ أساسِ
هذا الدين ، من عقيدةِ وتوحيد ، ودعوة إلى تبصيرِ الأمة وتوجيهها ،
بإِرساء قضايا الإيمانِ بالله وشريعته بعيدا عن مظاهرِ الغلوِ والتطرف
أو التساهُلِ والتميُّع المفضي إلى الإرجاء أو بعضِ صوره .
إن ترسيخَ معاني الإيمانِ والاعتقاد ، واليقينِ والثقة يُنتجُ العملَ
الصالح والولاءَ لهذا الدين ، والصبرَ عليه والثبات حتى الممات ، مهما
عصفتِ الفتنُ أو ادلهمَّت الخطوب ، ولقد مرّت بديارِ الإسلام أزماتٌ
شديدة ونكباتٌ عديدة ، انتهت فيها الخلافةُ الراشدة ، وسقطت الدولةُ
الأمويةُ والعباسية وغيرُ ذلك ، ومع كلِّ هذا : فلم يُورث ذلك في
نفوسِ المسلمين شكا في عقيدتهم ولم تدفعُهم إلى التطلُّع إلى ما عند
أعدائهم من أفكار ومبادئ وأساليبَ حياةٍ وأنماطِ سلوك تُخالفُ
شريعتَهم ويأباها دينَهم ، ولم يروا الحقَّ إلا في دينِ الله عقيدةً
وسلوكا ونظامَ حياة ، وهذا هو معنى الاستعلاء في قول الله عز وجل {
ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن
كنتم مؤمنين } أي أن العزةَ والعُلو بالإيمانِ والثباتِ عليه
لا بالغلبةِ والظهور .
ثانيا : الاعتصامُ بالكتابِ والسنة : والتمسكُ بما فيهما واتباعُ
هديِهما ، وحسبك في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم « تركت
فيكم ما تمسكتم به لن تضلوا أبدا ، كتابَ
الله وسنتي » وقول الله عز وجل { فإن
تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن
كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } أي الاحتكامُ إلى الكتابِ
والسنة .
ثالثا : الاقتداءُ بسلف الأمة من الصحابة ومن سار على نهجهم ، وفي
طليعتهم الخلفاءُ الراشدون أبو بكر وعمر وعثمانُ وعلي رضي الله عنهم
أجمعين ، ففي السنن بسند صحيح « عليكم
بسنتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها
بالنواجذ » .
رابعا : الالتفافُ حول العلماءِ الصالحين ، والدعاةِ الصادقين ، الذين
عُرفوا بنُصحهم وسلامةِ منهجهم ، فإنهم ورثةُ الأنبياء ومصابيح الدجى
، أهدى الناسِ طريقا وأقربُهم من الله توفيقا ، فاجعل العلماءَ
الربانين لك صحْبا ورِفاقا .
خامسا : لزومُ جماعةِ المسلمين وإمامِهم واعتزالُ الفتنة ، وهذه وصيةُ
النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفةَ رضي الله عنه كما الحديثِ
المتَّفَقِ عليه ، قال : « كَانَ
النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ
مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا
كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا
الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ
قُلْتُ وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ نَعَمْ
وَفِيهِ دَخَنٌ .قُلْتُ : وَمَا دَخَنُهُ ؟ قَالَ قَوْمٌ يَهْدُونَ
بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ .قُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ
ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ
جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا .قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا فَقَالَ هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا
وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا ، قلْتُ فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ
أَدْرَكَنِي ذَلِكَ قَالَ تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ
وَإِمَامَهُمْ قُلْتُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا
إِمَامٌ قَالَ فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ
تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ
عَلَى ذَلِكَ » كما أن التثبُت في الأخبار والنقل وتركَ
الشائعات وهجرَ الخوضَ فيما لا يعني مطلوبٌ في كلِّ وقت ، وتعظُمُ
الحاجةُ لحفظ اللسان وصيانةِ السمع والتثبُت في حالِ الفتنة ، وكفى
بالمرء إثما أن يحدِّثَ بكلِ ما سمع .
سادسا : دعاءُ الله وسؤالُه والإلحاحُ عليه بطلبِ الثبات فلا غِنى
بالعبد عن ربه ، وفي الحديث الصحيح « كان
أكثرُ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على
دينك ، فقيل له في ذلك ؟ فقال : إنه ليس آدميٌ إلا وقلبُه بين
أُصبُعين من أصابعِ الله ، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ » .
ثامنا : كثرةُ ذكر الله تعالى ، فللذكر أسرار عجيبة { يا أيها الذين أمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا
واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون }
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادَك المؤمنين ، اللهم انصر من
نصر هذا الدين ، واخذل الطغاة والملاحدة والمفسدين والمنافقين يا رب
العالمين ..
وصلى الله وسلم على وبارك على خير البرية ، محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين .