الوفاء - روائع القصص
- لما حضرتْ عبدَ الله بن عمر الوفاةُ ، قال : إنه كان خطب إليَّ ابنتي رجل من قريش ،
وقد كان مني إليه شبه الوعد ، فو الله لا ألقى اللهَ بثلث النفاق ،
أُشْهِدُكم أني قد زوجته ابنتي [1] .
- حُكِيَ أن الخليفة المأمون لما وَلَّى عبد الله بن طاهر بن الحسين مصر
والشام وأطلق حكمه، دخل على المأمون بعض إخوانه يومًا،
فقال: يا أمير المؤمنين ، إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد أبي طالب ،
وهواه مع العلويين ، وكذلك كان أبوه قبله. فحصل عند المأمون شيء
من كلام أخيه من جهة عبد الله بن طاهر، فتشوَّش فكره ،
وضاق صدره ، فاستحضر شخصًا وجعله في زيِّ الزهَّاد والنسَّاك الغزاة،
ودسَّه إلى عبد الله بن طاهر، وقال له : امضِ إلى مصر، وخالط أهلها
، وداخل كبراءها، واستَمِلْهُمْ إلى القاسم بن محمد العلوي ، واذكر
مناقبه، ثم بعد ذلك اجتمع ببعض بطانة عبد الله بن طاهر، ثم اجتمع
بعبد الله بن طاهر بعد ذلك ، وادْعُهُ إلى القاسم بن محمد العلوي،
واكشف باطنه ، وابحث عن دفين نيَّته، وائتني بما تسمع .
ففعل ذلك الرجل ما أمره به المأمون ، وتوجَّه إلى مصر ودعا جماعة من
أهلها ، ثم كتب ورقة لطيفة ودفعها إلى عبد الله بن طاهر وقت ركوبه ،
فلمَّا نزل من الركوب وجلس في مجلسه خرج الحاجب إليه ، وأدخله على
عبد الله بن طاهر وهو جالس وحده ، فقال له : لقد فهمت ما قصدت ،
فهات ما عندك . فقال : ولي الأمان ؟ قال : نعم . فأظهر له ما أراده ،
ودعاه إلى القاسم بن محمد ، فقال له عبد الله : أَو َتنصفني فيما أقوله لك
؟ قال : نعم . قال : فهل يجب شكر الناس بعضهم لبعض عند الإحسان
والمنَّة ؟ قال : نعم . قال : فيجب عليَّ وأنا في هذه الحالة التي تراها من
الحكم والنعمة والولاية ولي خاتم في المشرق وخاتم في المغرب،
وأمري فيما بينهما مطاع، وقولي مقبول ، ثم إني ألتفت يمينًا وشمالاً
فأرى نعمة هذا الرجل غامرة وإحسانه فائضًا عليَّ ، أفتدعوني إلى الكفر
بهذه النعمة، وتقول: اغدر وجانب الوفاء ، والله لو دعوتني إلى الجنة
عيانًا لما غدرت ، ولما نكثت بيعته وتركت الوفاء له. فسكت الرجل ،
فقال له عبد الله : والله ما أخاف إلاَّ على نفسك ، فارحل من هذا البلد .
فلما يئس الرجل منه وكشف باطنه وسمع كلامه رجع إلى المأمون ،
فأخبره بصورة الحال ، فسَرَّه ذلك ، وزاد في إحسانه إليه،
وضاعف إنعامه عليه [2] .
- يُذْكَرُ أن النعمان كان قد جعل له يومين : يوم بؤس مَنْ صادفه فيه قتله
وأرداه ، ويوم نعيم من لقيه فيه أحسن إليه وأغناه . وكان هذا الطائي
قد رماه حادث دهره بسهام فاقته وفقره ، فأخرجته الفاقة من محلِّ
استقراره ليرتاد شيئًا لصبيته وصغاره ، فبينما هو كذلك إذ صادفه
النعمان في يوم بؤسه، فلمَّا رآه الطائي علم أنه مقتول ، وأن دمه
مطلول ، فقال : حيَّا الله الملك ، إن لي صبية صغارًا وأهلاً جياعًا وقد
أرقتُ ماء وجهي في حصول شيء من البلغة لهم ، وقد أقدمني سوء
الحظِّ على المَلِكِ في هذا اليوم العبوس ، وقد قربت من مقرِّ الصبية
والأهل ، وهم على شفا تلف من الطوى ، ولن يتفاوت الحال في قتلي
بين أول النهار وآخره ، فإن رأى الملك أن يأذن لي في أن أُوَصِّل إليهم
هذا القوت وأوصي بهم أهل المروءة من الحيِّ لئلاَّ يهلكوا ضياعًا،
ثم أعود إلى الملك وأسلِّم نفسي لنفاذ أمره . فلمَّا سمع النعمان صورة
مقاله ، وفهم حقيقة حاله ، ورأى تلهُّفه على ضياع أطفاله ،
رقَّ له ورثى لحاله، غير أنه قال له: لا آذن لك حتى يَضْمَنَكَ رجل معنا ،
فإن لم ترجع قتلناه ، وكان شَرِيكُ بن علي بن شُرَحْبِيل نديم النعمان
معه ، فالتفت الطائي إلى شريك، وقال له :
يا شريك بن عدي *** ما من الموت انهزام [3]
من الأطفال ضعاف *** عدموا طعم الطعام
بين رجوع وانتظار *** و افتقارا وسقام
يا أخا كلِّ كريم *** أنت من قوم كرام
يا أخا النعمان جُدْ لي *** بضمان والتزام
و لك الله بأني *** راجع قبل الظلام
فقال شريك بن عدي : أصلح الله المَلِكَ، عليَّ ضمانه . فمرَّ الطائي
مسرعًا، وصار النعمان يقول لشريك : إن صدر النهار قد ولَّى ولم يرجع .
وشريك يقول : ليس للمَلِكِ عليَّ سبيل حتى يأتي المساء .
فلما قرب المساء قال النعمان لشريك : قد جاء وقتك ، قم فتأهب للقتل .
فقال شريك : هذا شخص قد لاح مقبلاً ، وأرجو أن يكون الطائي ،
فإن لم يكن فأَمْرُ الملك ممتثل. قال: فبينما هم كذلك وإذ بالطائي قد اشتد
عَدْوُه في سيره مسرعًا ، حتى وصل ، فقال : خشيت أن ينقضي النهار
قبل وصولي . ثم وقف قائمًا ، وقال : أيها الملك ، مُرْ بأمرك .
فأطرق النعمان ، ثم رفع رأسه ، وقال : والله ما رأيت أعجب منكما ،
أمَّا أنت يا طائي فما تركتَ لأحد في الوفاء مقامًا يقوم فيه،
ولا ذكرًا يفتخر به ، وأمَّا أنت يا شريك فما تركت لكريم سماحة يُذْكَرُ بها
في الكرماء ، فلا أكون أنا ألأم الثلاثة ، ألا وأني قد رفعت يوم بؤسي عن
الناس ، ونقضتُ عادتي كرامة لوفاء الطائي وكرم شريك .
فقال الطائي :
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي *** فعددت قولهم و من الإضلال
إني امرؤ مني الوفاء سجية *** وفعال كل مهذَّب مفضال[4]
فقال له النعمان : ما حملك على الوفاء وفيه إتلاف نفسك ؟ فقال : ديني ،
فمن لا وفاء فيه لا دين له. فأحسن إليه النعمان ، ووصله بما أغناه ،
وأعاده مكرمًا إلى أهله ، وأناله ما تمنَّاه [5] .
- لما مات امرؤ القيس سار الحارث بن أبي شمر الغساني إلى السموءل
[6] بن عادياء ، وطالبه بأدراع امرئ القيس ، وكانت مائة درع، وبما له
عنده ، فلم يُعْطِه ، فأخذ الحارث ابنًا للسموءل ، فقال : إما أن تسلم
الأدراع ، وإما قتلتُ ابنك . فأبى السموءل أن يسلَّم إليه شيئًا ، فقَتَلَ ابنه ،
فقال السموءل في ذلك :
وفيت بأدرع الكنديِّ إنِّي *** إذا ما ذمَّ أقوامٌ وفيت
وأوصى عاديا يومًا بأن لا *** تُهَدِّم يا سمول ما بنيت
بنى لي عاديا حصنًا حصينًا *** وماءً كلّما شئت استقيت[7]
- قال الشعبيُّ : قال عمرو بن معد يكرب : خرجتُ يومًا حتى انتهيت إلى
حي ، فإذا بفرسٍ مشدودةٍ ، و رمحٍ مركوز ، وإذا صاحبه في و هدةٍ
يقضي حاجة له ، فقلت له : خذ حذرك ، فإني قاتلك . قال : ومن أنت ؟
قلت : أنا ابن معد يكرب . قال : يا أبا ثور، ما أنصفتني ، أنت على
ظهر فرسك وأنا في بئرٍ ، فأعطني عهدًا أنّك لا تقتلني حتى أركب
فرسي وآخذ حذري . فأعطيته عهدًا أني لا أقتله حتى يركب فرسه
ويأخذ حذره ، فخرج من الموضع الذي كان فيه حتى احتبى بسيفه
وجلس ، فقلت له : ما هذا ؟ قال : ما أنا براكبٍ فرسي ولا مقاتلك ،
فإن نكثت عهدًا فأنت أعلم . فتركته ومضيت ، فهذا أحيل مَنْ رأيت [8]