قد يجد الناظر من حولنا أنَّ أحوال كثير من الناس قد تغيَّرت لدرجة أن أصبح الغشُّ خُلُقًا ودَيدنًا، لا يستغنون عنه في تعاملاتهم وتسيير أمور حياتهم ومعيشتهم، ولقد وصل الغشُّ إلى شرائحَ كثيرة من المجتمع وصولاً ليست له دلالةٌ سوى: أنَّ صاحبه قد باع آخرتَه بدنيا عفنةٍ قذرة، لن تطول كثيرًا، ولن يجنيَ في آخرته سوى الخُسران والضياع يوم لا ينفعُ الندم.
اللهم نجّنا وثبّتنا، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
نماذج من المُفلسين: التاجر:
فمن التجَّار من تجده يحلف الأيمان المغلَّظة في تجارته، وهو يعلم أنه كاذب! ومنهم من يَغشُّ في سلعته بخلطها بما يُفسد فائدتها، ومنهم من يغشُّ في تواريخ الإنتاج وتواريخ الصلاحية، ومنهم من يضع السلع الفاسدة بقاع العبوة ثم يضع من فوقها السِّلع الصالحة المميزة في شكلِها وجمالها، ومنهم من يخلِط مع العسل ماءً، ومنهم، ومنهم ومنهم...
فيا تاجرًا غاشًّا في تجارتك: اعلم أنك مفلسٌ، فاتق اللهَ، فربُّك يراك وسيحاسبك، ولن ينفعك ندم ولا تحسُّر.
الموظف:
ومن الموظفين من يغشُّ كثيرًا، تجده لا يتَّقي الله في وظيفته، يزوغ ويُهمل، ويحصُل على راتب يشوبه الكثير من الحرام، يطلب من زملائه التوقيع بالحضور، وهو لا يكون حاضرًا في دائرة عمله، ومنهم من تجدهم لا يرقبون في الله إلاًّ ولا ذمَّة، لا يُهمهم: أَمِنْ حلالٍ يأكلون، أم في حرامٍ يغوصون؟! يظنون أنَّها شطارة وفهلوة وذكاء، وهؤلاء والله إنما يغشُّون أنفسهم، ويضحكون على أنفسهم قبل كونهم يغشُّون الله وأصحاب مؤسساتهم ودوائر أعمالهم..
أىُّ بركة ستحلُّ على رواتبهم، وبأىِّ وجه سيقابلون ربهم عند الحساب؟! ألا يعلمون أنَّ من نبَت لحمه من حرام فالنار أولى به؟! يتحالفون مع الشيطان فيصلون به إلى حلبة من الصراع، يتفوقون عليه وعلى جنوده، بل ويتميزون، أليس في هذا غشٌّ لجهة العمل، سواءٌ لأصحاب الأعمال بالقطاع الخاص أو المصالح الحكومية؟! أليس في هذا غشٌّ لنفسه وزوجه وبنيه، فهو يطعمهم من الحرام ويغذِّيهم من الحرام، فأنَّى يُستجاب له؟!
فيا غاشًّا في عملك ووظيفتك: اعلم أنك مفلسٌ، فاتقِ الله، فالغشُّ ظلمات وضياع للضمير، ومجلبة لعدم البركة.
الطالب:
وقد تجد الطالب الذي يقتنص من زميله في قاعة الاختبارات الإجابة عَنْوة وسرقة مع سبق الإصرار والترصُّد، لينجح على أكتاف المجتهدين المُتعَبين، الذين لم يتركوا ليلة إلا وهم فيها ساهرون، ثم يفاجأ المسكين أنَّ ذلك الآخر -الذي غشَّ منه- قد حصل على درجة أعلى منه، كيف ذلك؟! لا يدري.. وإنا لله وإنا إليه راجعون!
فتكون النِّقمة على المُعلِّم الذي صحّح الاختبار، وعلى الطالب الذي تفنَّن في القنص بإبهار، فتتأجَّج القلوب وتشتعل، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العظيم!
فيا طالبًا غاشًّا: اعلم أنك مفلس.. فاتق الله، فإن ما حصلت عليه -قنصًا- سيكون إلى زوال، فضلاً عن ضياع خُلُقك.
المدَّعون للعلم والمعرفة:
وقد تجد فئةً من المدَّعين للعلم والمعرفة يقومون بسرقة أبحاث غيرهم ومقالاتهم ودراساتهم، ثم يُزيلون منها أسماءَ أصحابها، وينسبونها لأنفسهم بلا ضمير، بلا خجل بلا حياء، بلا خوف من الله! وهى فئة وشريحة كبيرة جدًّا الآن، خاصَّة على شبكة الإنترنت، فكثر هؤلاء الذين ينقُلون المقالات والبحوث والدراسات عن غيرهم، وينسبونها لأنفسهم، ولا يكلِّف أحدهم نفسه أن يشير إلى أن المنشور قد تم نقله عن فلان أو علاَّن، إحقاقًا للحق، وحفاظًا على حقوق مَن بحث وكتب ودرَس وألَّف، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ضاعت الضمائر، وعميت البصيرة والبصائر، سعيًا وراء الرِّياء والسمعة والشهرة، حتى يقالَ عنهم: إنهم كُتَّاب وعالمون ومثقفون ومميَّزون.
فيا غاشًّا في العلم والمعرفة: اعلم أنك مفلس، اتق الله، وأعط كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، وانسُب الفضل في العلم والمعرفة إلى صاحبه وأهله، واعلم أنَّ الله طيِّبٌ لا يقبل إلا ما كان طيبًا، وأْتِ بأسلوب راقٍ لا ضياع فيه لحقوق الغير.
المُعلِّمون:
وقد تجد شريحةً من المعلِّمين والمعلمات لا يتَّقون الله في الشرح وتبيين الدروس لطلابهم، فيتركون الغامض من الدروس، ويعقِّدون السهل منها، وذلك من أجل مُساومة الطلاب على أنَّ الفهم الصحيح والتحصيل الأكيد لن يكون إلا بدرسٍ خصوصيٍّ، بعيدًا عن ساحة المدرسة وقاعة الفصل الدراسيِّ، فيصبح المعلم بذلك غاشًّا لله ورسوله، غاشًّا للأمانة التي حمَّلها الله إياه..
أمانة التعليم، وأمانة التربية، وأمانة الجيل الذي يستطيع أن يساهم في إخراجه على أحسن وجه وأطيب أثر، ولا يكون ذلك الغشُّ إلا سببًا في ضياع الضمائر، وعثرةً كبيرة أمام أولياء الأمور الذين لا يستطيعون مُواكبة الدرس الخصوصيِّ ومصاريفه..
ثم في النِّهاية فإنَّ هذا الغشَّ يُخرج للمجتمع -لا محالة- جيلاً ناقمًا على المعلمين، الذين هم في الحقيقة إذا كانوا أمناءَ بحقٍّ وعلى حق، وعملوا بحق الأمانة، لكانوا والله كالرسل تُقبَّل أقدامهم قبل أيديهم، فهم السِّراج، ومعالم الطريق القويم، وشمس الهداية لتلاميذَ يراد لهم غدٌ مشرقٌ، وأن يكونوا جيلاً صالحًا منتجًا..
فيا معلِّمًا ويا معلمةً غاشًّا في عملك: اتق الله، فالغشُّ ضياعٌ لتلاميذك، ومجلبةٌ للنقمة، ومحق للبركة من رزقك.
خاتمة:
اللهمَّ إنك ناظرٌ إلينا، حاضرٌ معنا، قادرٌ علينا، أحطْتَ بنا سمعًا وعلمًا وبصرًا، فارزقنا أُنسًا بك وهيبةً منك، وقوِّ فيك يقيننا، وبك اعتصمنا فأصلح لنا ديننا، وعليك توكَّلنا فارزقنا ما يكفينا، وبك لُذْنا فَنَجِّنا مما يؤذينا، أنت حسبنا ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
وصلِّ اللهم على نبينا وقدوتنا محمَّد صلى الله عليه وسلِّم وآله وأصحابه، الصادق الأمين.