عـلمتني الـدعـوة تلاميذ في مدرسة الحياة .. هكذا نظل مهما كبرنا ، و مهما
تسللت الشعرات البيضاء في رؤوسنا ، نظل تلاميذ في مدرسة الحياة . و لكن
الحياة تظل حياة واحدة طالت أم قصرت . و لذلك لم أتعلم من الحياة بقدر ما
تعلمت من الدعوة إلى الله ، و لقد تساقطت من شجرة حياتي عشرون ورقة ، في
حين لم يسقط بعد من شجرة الدعوة سوى ورقتان ، و مع ذلك علمتني الدعوة في
مدة يسيرة ما قد يمضي فيه خريف العمر دون درس واحد منها ، لأن الدعوة حيوات
و خبرات ، هي حياتي و حياة آلاف معي من الأتراب ، و حياة ملايين قبلي من
السلف و العلماء و المجربين و العارفين ، هي خبرات تلذذت بعصارتها دون أن
أخوض مرارة العصر و قسوته ، هي أتراح و أفراح ذقتها بدل المرة مرتين و
ثلاثة و في كل مرة كان لها طعم مختلف و مذاق جديد . في السطور التالية أبسط
لكم ما طواه لي سبيل الدعوة في هذه المدة اليسيرة .. و الله وحده أحمد له
فضل ما أولاني ، ﴿ ذلكما مما علمني ربي ﴾ .
علمتني الدعوة أن الداعي ليس إلا مذكرا ، ليس له من الأمر شئ ، ليس له أن
يكفر أو يجرم ، ليس له أن يجزم لهذا بالجنة و يقطع لآخر بالنار ، إنما هو
مذكر ، و مبشر ، و منذر . إنما هو طائر يصدح أينما حل ، ليس عليه ممن يقف
ليستمع أو يولي ظهره و يرحل ، ما عليه إلا أن يصدح .. ثم يكل الأمر بعد ذلك
إلى الله .
علمتني الدعوة أن الداعي بشر و ليس ملاكا ، يخطئ و يذنب و يقصر ، ينشط و
يفتر ، يضحك و يبكي ، ليس معصوما و لامطهرا .. و إنما مجاهد فقير إلى عفو
ربه ، يسعى و يحث الخطى ، كثيرا ما يتعثر في غمرة اندفاعه إلى حيث مهوى
فؤاده ، لكنه يعود لينهض بكل قوة نافضا عن نفسه الغبار ، وهو إذ ينهض يمد
يده لينهض معه أخا له ، يسعى و يده في يد إخوانه ، يداه دوما مشغولتان ، هو
في البداية ممن خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا ، ثم بصدق العزيمة و الحب و
الجهاد ، يمن عليه الله فيصير من الأوابين التوابين ، ثم يمن عليه كرة أخرى
فيصير من المتقين ، ثم يشمله بكريم مَنِّه تعالى ليصير للمتقين إماما
علمتني الدعوة أن الطريق إلى الله وعر ، شاق ، مجهد ، لكنه أبدا ليس
مستحيلا ، إنما يحتاج إلى صدق في الإرادة ، و إخلاص في النية ، و صبر على
العوائق . علمتني الدعوة أن حلول الزائر المنتظر
بساحتي و أنا في طريقي إلى الله ، هو خير عاقبة و خير ثوابا من حلوله و أنا
معرضة ، ميممة شطر طريق لا يزن عند الله جناح بعوضة .
علمتني الدعوة ان أشعر بقمة العزة و الأنفة و الكبرياء و أنا أطأطئ رأسي معتذرة نادمة .
علمتني الدعوة ألا أحبس دموع الندم و الأسف ،
علمتني الدعوة ألا أقول " آسفة " و أنفي في السماء ، و لكن أن أقولها و
عيني إلى الأرض ، أن أنطقها بقلبي لتنسكب في قلب من أعتذر إليه .
علمتني الدعوة أن أجمل ما في ضعف الخطيئة هو قوة التوبة و حرارة الندم .
علمتني الدعوة أن ذنبا يبكيني أمدا ، خيرا من طاعة أزهو بها ساعة . و إن
كلا لمِنَ الله ، فما الذنب إلا ابتلاء منه تعالى رحمة بالمذنب ليطهره و
يذكره أنه أبدا عبد ، و أنه أبدا محتاج ذليل صغير ، و يذكره أنه تعالى أبدا
سيكون موجودا ، ليقضي حاجته و يرفع خسيسته و يقيل عثرته ، سيكون أبدا هناك
يستمع أنينه و شكواه ، و يقول لبيك عبدي لبيك عبدي لبيك عبدي ، و لا يمنعه
جلاله تعالى عن العطا لذي الخطا . و ما الطاعة إلا منته تعالى و كريم فضله
و إحسانه ليواسينا ، ليرفع عنا الخجل بدل أن نقدم عليه يوم الحساب صفرا
خاويين إلا من كل شر ، و يأبى العظيم في جبروته و عزته و عظيم منته و فضل و
رحمته إلا أن يقول
: ﴿ و نودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون﴾
سبحانك مولاي ! و هل عملنا إلا من رحمتك بنا و تفضلك علينا ؟! سبحانك لك
الحمد كله و لك الشكر كله ! سبحانك و بحمدك و لا إله غيرك ، و لا حول و لا
قوة إلا بك وحدك .
علمتني الدعوة أن السلام الحقيقي ليس الإعراض عن جهل المخطئ المعاند لمجرد
الإعراض ، و لكنه الرأفة به و رحمته ، و ليس الشفقة عليه ، فما أحد أحق
بالشفقة من نفسي التي بين جنبي ، أفأمنت النار على نفسي حتى أطمئن ؟ أوَ
أمنت له سوء الخاتمة فأرثي له ؟؟
علمتني الدعوة أن أحب أخي المسلم ، إن صلح أحببته و أحببت صلاحه ، و إن كان
غير ذلك أحببته ، و سالمته . و ليس أسلم من سهم صادق من سهام الليل التي
لا تخطئ . السلام الحقيقي أن تؤثره بنصيبك في الدعاء ، و أن تجهد عينيك
لتبكيا رحمة به كما تبكي لنفسك ، أن تدعو له بصدق لينجيه الله مما أنجاك
منه بعظيم منته و فضله و رحمته .
علمتني الدعوة كيف أسالم الجاهلين حق المسالمة . علمتني الدعوة معنى قول
الحبيب المصطفى : " بلغوا عني و لو آية " . علمتني الدعوة أن أنتبه لـ " عني " أكثر مما انتبه لـ "آية " .
علمتني الدعوة أن أستشعر معنى الرحمة و اللين و القوة في " عني " .
علمتني الدعوة أن الداعي لا يأخذ الآية ,وحدها بل يأخذ عنه صلى الله عليه و
سلم ، يأخذ عنه رحمته بالمؤمنين ، و حلمه على الجاهلين ، يأخذ عنه القوة
في غير عنف ، و الثبات في غير جمود ، و اللين في غير ضعف ، و السهولة في
غير تهاون .
علمتني الدعوة أن أبلغ عنه صلى الله عليه و سلم ، قبل أن أبلغ الآية .
علمتني الدعوة ألا أحقر من المعروف شيئا ، و لو حبة خردل ، فإن الله يأتي بها و لا تغيب عنه . علمتني الدعوة أن عُمَيْلاً خالصا لوجهه الكريم وحده أختبئه عنده تعالى ، خير من جبال أعمال تصير بالرياء و الغلظة هباءا منثورا .
علمتني الدعوة أن الشهرة ليست مقياس النجاح ، فكم من أناس اخترمهم يد
المنون لا نعلم عنهم شيئا ، لكن الله يعلم ، و الله حسبهم . ماتوا و قلوبهم
معلقة به وحده ، فأثابهم ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة . علمتني الدعوة
أن طريق الداعي ليس مفروشا ورودا و رياحين ، بل إنه طريق ذو أشواك ناتئة ،
كل شوكة أَحَدُّ من أختها و أَسَنّ : أشواك الرياء و الكِبْر و العُجْب و
الغرور .
علمتني الدعوة معنى الأخسرين أعمالا الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
علمتني الدعوة معنى الموبقات المهلكات . لكنها علمتني في المقابل أعظم معنى
يتعلمه العبد : اللجوء إلى الله ، و التوكل عليه وحده ، و طلب العون منه
وحده .
علمتني الدعوة أن هذه الآفات المهلكة لا يقوى عليها إلا من أعانه الله عليها
. علمتني الدعوة معنى قول الشاعر : و إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده
علمتني الدعوة زيف سعي النفس غير المهذبة ، التي لم تتهذب بعد على طاعة الله و التوجه له وحده
. علمتني الدعوة زيف السعي للثناء و المديح من الآخرين . علمتني الدعوة
ألا أتيه بمجاملات مخلوقين مثلي ، لأنهم لا يغنون عني شيئا حين أُلَفُّ في
الكفن ، و أُرمى في حفرة هي إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران
.
علمتني الدعوة أن السعي لإرضاء مخلوق ضرب من
السفه و خَطَل الرأي ، فما يغني عني مخلوق من طين مثلي حين أقف أمام الخالق
فيقول لي : اذهبي فاطلبي الأجر ممن عملت له ؟! ما يغني عني في ذلك اليوم
العصيب إذا كان سيفر من أمه و أخيه و صاحبته و بنيه ؟؟!!
علمتني الدعوة أن ساعي الخلق خاسئ ، و ساعي الله لا يخيب . علمتني الدعوة
أن أجتهد لاستحضار النية قبل كل عمل خالصة لوجهه الكريم وحده . علمتني
الدعوة استحضار النية ،
علمتني الدعوة أن أرتقي بحياتي الدنيا من عادات إلى عبادات .
علمتني الدعوة أن العمل بغير نية عناء ، و النية بغير إخلاص رياء و هباء .
علمتني الدعوة أن أستمتع أو على الأقل أجاهد لأستطيب ما لا أحب عمله لكنه
ضروري ، لأنه سيقربني من الله و لو كان إماطة حجير من الطريق ! لأنني
انتويت به وجه الله .
علمتني الدعوة أن عميلا لوجه الله خير و أبقى من أعمال غايتها لحس أيادي من ليس له عليَّ يد !
علمتني الدعوة أن أُثمِّنَ وقتي و أستشعر مسؤوليته . علمتني الدعوة أن وقت
المسلم ليس ملكا له وحده ، بل لإخوانه فيه نصيب ! علمتني الدعوة أن المسلم
دائم السعي لاستغلال الوقت في كل ما يرقى بنفسه ، لا للرقي فحسب ، و لا
ليقال إنه أرقى ، و لكن ليرتقي بإخوته و أمته معه .
علمتني الدعوة أن الحياة بطولها و عرضها لا تتجاوز الزمن الذي يستغرقه
خارج من باب و داخل من آخر ، فيا لها من حياة ! إنها لحقيقة باستغلال كل
لحظة فيما لا يضيع بمجرد انتهاء لذته .
علمتني الحياة قول الحبيب المصطفى " مضى زمن النوم يا خديجة " .
علمتني الدعوة أن أشعر بهموم أمتي . علمتني الدعوة أنه من الجميل حب العزلة
و الخلوة و الهدوء ، و لكن ليس من الجميل أبدا تولية الظهر لكل ما لا
يخصني ، و ما لا يمسني بسوء .
علمتني الدعوة أن ليس من شيمة المسلم الساعي إلى الله أن يرفع شعار " أنا و من بعدي الطوفان " .
علمتني الدعوة الفرق بين الهدوء و السلبية ، و فضول التدخل و الإيجابية .
علمتني الحياة معنى قوله صلى الله عليه و سلم : " من استطاع منكم ان ينفع أخاه فليفعل " .
علمتني الدعوة أن أستشعر بالظلم و لو كان المظلوم غيري ، و أن أشعر بلسعات
السياط و لو كانت على ظهر جاري . علمتني الدعوة أن المؤمن للمؤمن كالبنيان
يشد بعضه بعضا .
علمتني الدعوة أن زيادة العلم هو مغرم لا مغنم ، و زيادة تكليف لا زيادة
تشريف . علمتني الدعوة أن ويل للجاهل حيث لم يعلم مرة ، وويل للعالم حيث لم
يعمل بعلمه ألف مرة .
علمتني الدعوة مدى قسوة قول القائل : يا أيها المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم علمتني الدعوة أن كم هو مؤلم أن تجد نفسك يوما في زمرة من يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم .
علمتني الدعوة أنني لا أدعو الآخرين ، و إنما في الواقع أدعو نفسي ، آخذة بيد الآخرين معي .
علمتني الدعوة حكمة القائل : تريد مهذبا لا عيب فيه و هل عود يفوح بلا دخان
علمتني الدعوة روح التعاطف و التفهم ، أن ألتمس الأعذار للآخرين ، لأنني
كنت يوما أو سأكون يوما مكانهم ، و سأتمنى مثلهم لو أُمنح فرصة اخرى .
علمتني الدعوة أن أقبل من المسئ و لو نظرة الندم دون الاعتذار ، لأنني كنت
يوما مخطئة نادمة أشد الندم ، أتمنى لو يقبل اعتذاري . علمتني الدعوة أن
أتفهم - إن كنت لا أقبل - ذنوب المذنبين ، لأنني كنت و سأكون و سأظل مذنبة ،
و لكن الذنوب تختلف و تتنوع .
علمتني الدعوة معنى أن أخطئ خطئا جسيما ، لا ينفع معه اعتذار ، و مع ذلك
أتمنى من كل قلبي أن أعتذر لو يقبل اعتذاري ، لذلك لا أسرف على من يخطئ في
حقي خطئا جسيما ، لأنني أعلم جيدا كيف يكون الخطأ الجسيم ، و كيف يكون
الندم عليه.
علمتني الدعوة عظمة و جلال و رحمة و عدل الخالق جل و علا .
موقع طريق التوبه