الحياة الزائفة إلى أين ؟
خليل الصبري
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
إن
الله خلق الموت والحياة ليبتلي خلقه في أرضه: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً) ليختبرهم فينظر أيهم له أطوع، وإلى طلب رضاه أسرع فقدم
الموت على الحياة الزائفة لأن الموت إلى القهر أقرب فالله خلق عباده،
وأخرجهم لهذه الدار، وأخبرهم أنهم سينقلون منها، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم
بالشهوات المعارضة لأمره، فمن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له
الجزاء في الدارين، ومن مال مع شهوات النفس، ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء
فهل يتعظ ويتذكر الآخرة ونعيمها والنار وعذابها والدنيا وضنكها فهي دار
بلاء وعمى إلا لمن أحسن فيها.
فلذا ربنا قال: (وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)
فغرور الدنيا الزائفة وضنكها، جعلت الإنسان يتيه في أمواله التي أكتسبها.
فالفقير يملك شيئا قليلا من نعيم الدنيا فيحافظ عليه وإذا زاد هذا القليل
ظن أنه من أغنى الناس في الحياة فيفكر ماذا يصنع بماله أيشتري له مركباً
مريحاً أو يبني له منزلاً كبيراً أو! والغني إذا زاد ماله ظن أنه أصبح أغنى
الناس، فيفكر كما يفكر الفقير فتكون الفرحة هي نفس الفرحة سواء مع الغني
أو الفقير إلا أن الفقير لا يحزن إذا قل ماله أما الغني إذا نقص جزء بسيط
من ماله ظن أنه هالك وأن الطامة حلت به وأنه صار مفلسا.
فالله جعل طمع الإنسان واحد فإذا كثر ماله فرح ونسى الآخرة وركن إلى
الدنيا وقد أخبرنا الله -عز وجل- عن قصة قارون عندما تكبر بماله وسلطانه
وأنكر فضل الله عليه وأخذ يمتدح نفسه ويقيمها التقييم الفاشل الذي جعله
يعجب بنفسه أنه أفضل من في الأرض بالمال والجاه ولكنها لحظات قصيرة حتى قال
إنما أوتيته على علم عندي أي على خبرة مسبقة وعلى حذاقة قديمة اكتسبتها
من الآباء والأجداد فلم يلبث إلا قليل وأخبر الله عن حاله.
تغيرات جذرية في حياته اليومية خسف داره هلك ماله انتهت حياته أين الخبرة
المسبقة أين المال المكسوب أين الكبر الذي يحميه أين وأين؟ لحظات يفارق هذه
الدنيا يعاني الذل بعد العزة، الفقر بعد الغنى، الخوف بعد الأمان،
الإهانة بعد الكبر، الإنفراد بعد الجند، و الوحشة بعد الأنس الموت بعد
الحياة هذا الملك العظيم كيف أصبح؟ (فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ
يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ)
فأين ماله؟ وأين جاه وأين قصره المشيد؟ وأين علمه الذي أرداه في الحافرة؟
لماذا لا يدافع عن قصره ولا يجهز جيشه؟؟ لماذا لا يعطي ماله لمن يدافع
عنه؟ لأنه لا يستطيع أن يصد حياته الزائفة عن قدر الله عليه: (إِنَّ
أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) فنفسه
التي أهوته وجعلته في أسفل سافلين صار مسكينا يوم القيامة لا مال! لا
سلطان! لا كبر على الآخرين ولا عجب في النفس! إنها الإهانة العظيمة إنها
الحياة الزائفة التي يلهث وراءها الناس، ختامها ابتلعته وابتلعت داره،
وهوى في بطن الأرض التي علا فيها واستطال فوقها جزاء وفاقا.
وذهب ضعيفا عاجزا، لا ينصره أحد، ولا ينتصر بجاه أو مال. وهوت معه الفتنة
الطاغية نار هول عظيم ترداه. وهكذا الحياة لا يكون لها سعادة إلا لمن أحسن
عمل الآخرة: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا
يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83] تمر كما تمر سحابة الصيف سرعان ما تنقشع وتنتهي
وتزول ويأتي خيرها وثرواتها إلى من أحسن العمل والله يقول: (وَمَنْ
أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ
إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33].
ومن
أحسن ممن دعا إلى الله فدعوة الله هي خير الدعوات وخير العلم فأين اليوم
الدعاة يستغلون هذه الحياة القصيرة الزائفة بوعظ الناس وحثهم على الخير
وإرشادهم إلى الهدى وترك الضلال إنها الحياة القصيرة التي يلهث وراءها
المتخبطون في ظلام الدنيا البعيدون عن الحياة الحقيقية التائهون في سراب
الدنيا الفانية حياتهم الزائفة إلى أين؟
فعملنا الأخروي مصباح هدايتنا ونور صراطنا وضياءنا إلى الجنة
(وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الصافات: 118] (مَنْ عَمِلَ
صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ)[النحل: 97](مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا
مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ
حِسَابٍ)[غافر: 40] التصديق بوعد الله - عز وجل -: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى
وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) اليقين
الجازم بهلاك الدنيا وبقاء الآخرة: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ
لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)[الأنعام: 32].
نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا من أهل جنته وأن يبعدنا عن النار إنه على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين.