معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لغير المسلمين
المطوية للكاتب عبد العزيز الشامي
إن الذي
ينظر إلى الرسالة المحمدية يجدها قد حفظت كرامة الإنسان، ورفعت قدره،
فالناس بنو آدم سواء المسلم وغير المسلم، وقد كرم الله بني آدم جميعًا؛
فقال في قرآنه: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا }
(الإسراء: 70) ؛ فالجميع لهم الحقوق الإنسانية كبشر أمام ربهم، وإنما
يتميز الناس عند ربهم بمدى تقواهم وإيمانهم وحسن أخلاقهم، وكم كان حرص
محمد صلى الله عليه وسلم على إبراز هذا المعنى الإنساني واضحًا في
تعاملاته وسلوكياته مع غير المسلمين!
ففي
الحديث الثابت قول محمد صلى الله عليه وسلم : «إذا رأيتم الجنازة فقوموا
حتى تُخلِّفكم»، فمرت به يومًا جنازة، فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي،
فقال: «أليست نفسًا».([1])
وكان
محمد صلى الله عليه وسلم ربما عاد المرضى من غير المسلمين؛ فقد زار
النبي صلى الله عليه وسلم أبا طالب وهو في مرضه، كما عاد الغلام اليهودي
لما مرض.([2])
وحرص على
القيام بحقوقهم في الجوار فقال: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه،
وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره»([3])، فشمل حديثه كل جار حتى لو كان
من غير المسلمين.
ولم يأت
محمد صلى الله عليه وسلم ليسلب الحرية من الذين لم يتبعوه، بل قد تعامل
معهم بتسامح نادر الحدوث، وكان من أهم هذه المبادئ في تعامل الرسول محمد
صلى الله عليه وسلم مع الآخر:
لا إكراه في الدين:
رغم أن
محمدًا وأصحابه يعتقدون يقيناً أن الحق في اتباع الإسلام؛ فهو المتمم
لرسالات الرسل من قبل، إلا أنهم لم يحاولوا مطلقًا إجبار أحد على الدخول
في الإسلام رغمًا عنه، وقد أبان القرآن جليًّا عن ذلك المعنى بقوله: { لَا
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }
(البقرة: 256).
فلا
إرغام لأحد على الدخول في الإسلام حتى لو كان المُرغِم أبًا يريد الخير
لأبنائه، ولو كان المُرغَمُ ابنًا لا يشك في شفقة أبيه عليه. وحتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم نفسه نهي عن إكراه الناس للدخول في هذا الدين،
فقال عز وجل: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ
كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ } (يونس: 99) .
ولم
يكتفِ الإسلام بمنح الحرية لغير المسلمين في البقاء على دينهم، بل أباح
لهم ممارسة شعائرهم، وحافظ على أماكن عباداتهم، فقد كان ينهى النبي محمد
صلى الله عليه وسلم أصحابه عن التعرض لأصحاب الصوامع ولم يتعرض يومًا
لدار عبادة لغير المسلمين، وقد فقه هذا المعنى جيدًا أصحابه وخلفاؤه من
بعده؛ لذلك كانوا يوصون قادتهم العسكريين بعدم التعرض لدور العبادة، لا
بالهدم ولا بالاستيلاء، كما سمح لهم بإقامة حياتهم الاجتماعية وفق
مفاهيمهم الخاصة، كالزواج والطلاق ونحوه.
قيم العدل مع الآخر:
أمر محمد
صلى الله عليه وسلم بالعدل بين الناس جميعًا مسلمهم وغير المسلم منهم،
جاء في القرآن { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ
تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } (النساء: 58).
وتلقى
محمد صلى الله عليه وسلم الآيات فقام بها أتم قيام، فالأمر كان بالعدل
بين الناس جميعًا دون النظر إلى ذواتهم أو أجناسهم أو دينهم أو حسبهم؛
فالكل سواسية حتى لو كان صاحب الحق ظالمًا للمسلمين، فلابد من إعطائه حقه.
وأمر القرآن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يحكم بالعدل إن جاءه
أهل الكتاب يُحَكِّمونه بينهم { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (المائدة: 42).
وفي أكثر
من ثلاثين حديثًا يشدِّد محمد صلى الله عليه وسلم على أصحابه على حق
المُعاهَد، وهو من ارتبط مع المسلمين بمعاهدة، فمنها قوله: «من قتل نفسًا
معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين
عامًا».([4])
ومنها
قوله: «ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ له
شيئًا بغير حقه، فأنا حجيجه يوم القيامة».([5]) وقال صلى الله عليه وسلم :
«من قتل معاهدًا في غير كنهه، حرم الله عليه الجنة».([6])
ونهى
محمد صلى الله عليه وسلم عن تعذيب أي نفس ولم يشترط فيها الإسلام؛ فقال:
«إن الله عز وجل يُعذِّب الذين يعذبون الناس في الدنيا».([7])
لقد
حفظ محمد صلى الله عليه وسلم وضمن لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي
أمنهم على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، فلا يُتعرض لها بسوء لا من المسلمين
ولا من غيرهم، ما داموا في أرض الإسلام.
معاملة حسنة مع الآخر:
لقد تركت
تعاليم محمد صلى الله عليه وسلم مبدأً مهمّاً هو أن الأصل في المسلم
المعاملة الحسنة مع كل الخلق؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم : «إنما بُعثت
لأتمم مكارم وفي رواية ( صالح ) الأخلاق»([8])، ومكارم الأخلاق مع الجميع
سواء، المسلم وغير المسلم.
إن
التعايش والتفاهم والتعاون بين الأمم والخلق أمر تحتاجه الإنسانية حاجة
ماسة، وقد أمر محمد صلى الله عليه وسلم في رسالته بالرحمة في كل جوانبها،
وحسن التعامل بشتى وجوهه، تقول آيات القرآن: { لَا يَنْهَاكُمُ
اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (الممتحنة: 8) ، وفسر
علماء الإسلام البِرّ هنا في الآية بقولهم: «هو الرفق بضعيفهم، وسد
خَلَّة فقيرهم، وإطعام جائعهم، وكساء عاريهم، ولين القول لهم - على سبيل
التلطف لهم والرحمة -لا على سبيل الخوف والذلة -، واحتمال أذيتهم في
الجوار - مع القدرة على إزالته- لطفًا بهم لا خوفًا ولا طمعًا، والدعاء
لهم بالهداية، وأن يُجعلوا من أهل السعادة، ونصيحتهم في جميع أمورهم، في
دينهم ودنياهم، وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم...».([9])
وتتأكد
المعاملة الحسنة مع الأقارب منهم، وتصل إلى الوجوب مع الوالدين؛ فتذكر
أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد
قريش؛ إذ عاهدوا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن
أمي قدمت وهي راغبة أَفَأَصِلُها ؟ قال: «نعم صِلِي أمك».([10])
ولما قدم
وفد نجران -وهم من النصارى-على محمد صلى الله عليه وسلم بالمدينة،
دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد
الناس منعهم فقال محمد صلى الله عليه وسلم : «دعوهم»، فاستقبلوا المشرق
فصلوا صلاتهم.
وتقول أم
المؤمنين عائشة : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند
يهودي بثلاثين صاعًا من شعير([11])، وذلك في نفقة عياله صلى الله عليه
وسلم .
هذا، وقد
أمر محمد صلى الله عليه وسلم المسلمين بحسن رعاية أهل الذمة الذين
يعيشون في أكنافهم، فمن احتاج منهم للنفقة تكفلوا به، فالدولة مسؤولة عن
الفقراء من المسلمين وأهل الذمة، فتتكفل بالمعيشة الملائمة لهم ولمن
يعولونه؛ لأنهم رعية للدولة المسلمة، وهي مسئولة عن كل رعاياها، وقد قال
محمد صلى الله عليه وسلم : «كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته»([12]).
وحينما
مر الخليفة الثاني عمر وهو في الشام على قوم من النصارى مجذومين أمر أن
يُعْطَوْا من الصدقات، وأن يُجرَى عليهم القوت عند العجز والشيخوخة
والفقر.
حرية العمل والكسب:
وضع محمد
صلى الله عليه وسلم مواثيقه أن لغير المسلمين حرية العمل والكسب في
بلاد المسلمين، سواء بالتعاقد مع غيرهم، أو بالعمل لحساب أنفسهم، ومزاولة
ما يختارون من المهن الحرة، ومباشرة ما يريدون من ألوان النشاط
الاقتصادي، ويستوي حالهم في ذلك مع المسلمين سواء بسواء، ولهم الحق في
البيع والشراء وسائر العقود، ولهم الحق فيها وفي كل المعاملات المالية ما
اجتنبوا الربا.
وفيما عدا
الربا، وبيعهم وشرائهم الخمور والخنزير، وما يضر المجتمع مما نهى
الإسلام عنه؛ فلهم الحق فيما تعاملوا به، وإنما نهى عن تعاملهم فيما سبق؛
للضرر الحاصل منه سواء عليهم، أو على مجتمعهم.
كما يتمتعون بسائر الحريات في التملّك وممارسة الصناعات والحِرَف وغيرها.
([1]) متفق عليه.
([2]) رواه البخاري (1356).
([3])رواه الترمذي (1944) وصححه الألباني.
([4]) رواه البخاري (6914).
([5]) رواه أبو داود (3052) وصححه الألباني.
([6])رواه أحمد (19864) وأبو داود (2760)، وصححه الألباني.
([7])رواه مسلم (2613).
([8])رواه أحمد (8729).
([9]) انظر: الفروق للقرافي (3/15).
([10]) متفق عليه.
([11]) متفق عليه.
([12]) متفق عليه.