روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: [بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا
حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار].وروى ابن أبي
شيبة عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [تحدثوا
عن بني إسرائيل فإنه كانت فيهم أعاجيب].ومن أعاجيب بني
إسرائيل ما رواه أحمد والترمذي وحسنه عن ابن عمر رضي الله عنه قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله،
فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها.. فلما قعد منها مقعد الرجل
من امرأته أرعدت وبكت فقال: ما يبكيك أكرهتك؟ قالت: لا، ولكنه عمل ما عملته
قط، وما حملني عليه إلا الحاجة، فقال: تفعلين أنت هذا وما فعلته، اذهبي
فهي لك وقال: لا والله لا أعصي الله بعدها أبدا. فمات من ليلته فأصبح
مكتوبا على بابه إن الله قد غفر للكفل.قصص السنة كقصص القرآن
ليس للتسلية وتضييع الأوقات وإنما هو وحي حق للاعتبار وللادكار وأخذ العظة
والعبرة وتثبيت الإيمان في القلوب (وكلا نقص عليك من أنباء القصص الرسل ما
نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين)والإعراض
عن الاعتبار بقصص السابقين مهلكة للاحقين الغافلين المعرضين.. (كذلك نقص
عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا ، من أعرض عنه فإنه يحمل
يوم القيامة وزرا . خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا)فتعالوا
نتعلم شيئا من قصة الكفل:أولا: ما الذي جعل
الكفل يفعل ذلك فلا يتورع عن ذنب عمله؟إنه (في
اعتقادي) عدم الإحساس بالنعمة والكفران بالمنعم.فإن الله تعالى
عافاه في بدنه ، وسلمه في جسده ووسع عليه في ماله ورزقه فقابل نعمة الله
بالكفران، واستعمل مال الله في معصية الله ، وسخر بدنه الذي أصحه له الله
في مساخط، وهذا فعل كثير من الناس ، بل وما ربما من يفعل ذلك : فينظر بعينه
إلى ما حرم الله، ويسمع بأذنه ما حرم الله ، ويحرك لسانه بما يغضب الله ،
وينفعق ماله في شرب الدخان والخدرات، أو شرب الخمور والمسكرات، أو السفر
لفعل الفواحش والموبقات، والنفقة على الفاجرات والعاهرات والفاسقات
والساقطات.فهؤلاء حولوا نعمة الله إلى نقمة، ومنحة الله إلى
محنة وصارت النعمة وبالا عليهم؛ لأنهم كفروها ولم يشكروها، ولولا حلم الله
وعفوه وصبره على عباده لانتزعها منهم عقوبة لهم، وكم عاقب الله أناسا بسلب
نعمه منهم لسوء فعلهم وقبح فعالهم. مصداقا لقوله: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن
كفرتم إن عذاب لشديد}ثانيا: أن الحاجة مذلة والفقر قد
يؤدي إلى الكفر:وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: [اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه
بئس الضجيع]وكان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: [اللهم
إني أعوذ بك من الكفر والفقر].فإن الإنسان ربما يجوع فيبيع
عرضه، وربما زادت حاجته فيبيع دينه، وهذا ما يفعله المنصِّرون بفقراء
المسلمين في بلاد العالم كلها يعطونهم الطعام والثياب باليمين ويسلبونهم
دينهم بالشمال.وانظر إلى هذه المرأة في قصة الكفل، ما الذي
حملها على فعل ما فعلت؟ إنها الحاجة!! والدليل أنه لما قعد منها مقعد الرجل
من امرأته ارتعدت وبكت.. فلما قال أكرهتك قالت: لا ولكن هذا عمل لم أعمله
قط وما حملني عليه إلا الحاجة.. فلولا الحاجة ما باعت عرضها ولا عرضت لمثل
هذا الأمر نفسها.ويؤكد هذا قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم
الصخرة وأغلقت عليهم باب الغار فقاموا يتوسلون إلى الله بأعمال ظنوها صالحة
وخالصة لوجه الله تعالى، فقال أحدهم: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحب الناس
إلي، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني
فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا
قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه ، فتحرجت من الوقوع
عليها ، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها ، اللهم
إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.وقد جاء في
روايات الحديث أنه روادها عن نفسها فامتنعت عنه حتى ألمت بها سنة وهي الفقر
والحاجة الشديدة فأتت هي بنفسها إليه وهي التي تمنعت قبل ذلك، فسلمت له
نفسها بل عرضت نفسها عليه من أجل أن تأخذ مالا تسد به جوعتها وحاجتها.آآآآه
يا أمة الإسلام.. كم فيك من جائعة باعت عرضها لتأكل، وكم من عالم وغير
عالم باع دينة بفتوى ظالمة حمله عليها الحاجة. كم فيك من فقير باع دينه
بثمن بخس حمله عليه الفقر والجوع وفينا من ينعم بالمليارات لا بالملايين.ولقد
جعل الله للفقراء في أموال الأغنياء ما يسد حاجتهم، ولو أدى أغنياء
المسلمين زكاة أموالهم لما كان بينهم فقير واحدكما روى الطبراني في الأوسط
والصغير عن علي عن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله فرض على
أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم ولن يجهد الفقراء إذا
جاعو أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حسابا شديدا،
ويعذبهم عذابا أليما].فابحثوا عن الأرامل فاكفوهم، وعن اليتامى
فاكفلوهم حتى لا يتحولوا بعد ذلك إلى بؤر فساد أو معاول هدم في الأمة، وهو
ما دعاكم إليه نبيكم صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين قال: [أنا وكافل
اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والتي تليها وفرج بينهما.]وفيهما
أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله قال: [الساعى على الأرملة والمسكين
كالمجاهد في سبيل الله (وأحسبه قال) وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي
لا يفطر].ثالثا: لا تيأسن من دعوة إنسان:فإنه
مهما بلغ عتوه وعربدته؛ فإنك لا تدري ما يختم له به، ولا تعلم ساعة
هدايته، فمفاتيح القلوب بيد خالقها ولا يعرف الإنسان متى يفتحها، وأي كلمة
تلك التي تفتحها.ولا يمتنع الداعية وغيره عن تذكير العصاة
بالحكمة والموعظة الحسنة ولو في حال معصيتهم؛ فكم من مدخن لما ذكر بالله
رمى سيجارته ، وكم من مستمع للغناء لما ذكر بالله أغلق ما يسمع..
والعجب
كل العجب من الكفل وصاحب الغار.. كيف تركا هذا الموضع فإنه يصعب جدا على
صاحبه تركه؛ ولذلك عظم الله لهما المثوبة : فغفر للكفل وأنقذ صاحب الصخرةرابعا:
عظيم مقام الخوف من الله: قال تعالى: {ولمن خاف مقام
ربه جنتان} ، وقال: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة
هي المأوى}هذا المقام الذي جعل الكفل يقوم عن المرأة وقد بلغ
الأمر منتهاه، وجعل صاحب الغار يترك ابنة عمه وهي أحب الناس إليه خوفا من
الله.. وترك كل واحد منهما المال للمرأة.لكننا نعود ونتساءل:
كم رجل قام مقام الكفل لكنه لما ذكر بالله ما ذكر، أو قام مقام صاحب الغار
فلما طلبت منه المرأة خشية الله ما استجاب ولا ارعوى ولا ادكر.خامسا:
فتح باب التوبة أمام التائبين:وعظيم عفو الله وصفحه
عن خلقه، إن الكفل كان قد ملأ الدنيا فسادا، حتى لم يعد يتورع عن عمل أي
ذنب، ومثل هذا لا يتوقع الإنسان منه توبة، وأن أبواب السماء قد أغلقت في
وجهه.. ولكن فضل الله كان أوسع من ذنب الكفل، ورحمة الله إليه كانت أقرب
إليه مما يتخيل، ورغم أنه لم يمهله الأجل حتى يصلح ما أفسد، أو أن يحسن
بقدر ما أساء أو بعضه، إلا أن توبته الصادقة محت عنه كل ما قد مضى وقبل
الله منه رجوعه إليه وعزمه على عم العود فغفر له وأظهر ذلك للناس ليبقى
الباب مفتوحا أمام كل مذنب وليبقى الرجاء في رحمة الله دائما لا ينقطع مهما
كانت المخالفات ومهما بلغت السيئات، ويبقى منادي الله يسمع كل مريد
للتوبة: {قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن
الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم . وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا
له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون}المصدر: موقع
إسلام ويب