بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ
رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ
بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر:2].
رحمة الله هي قبس من ضيائه، ونور من أنواره، يرسلها متى شاء، ويمسكها متى شاء، فلا أحد يملك الإرسال، ولا أحد يملك المنع.
ومظاهر تلك الرحمة لا يحصيها عد، ولا يحيط بها مد، ولا يدركها تتبع..
وجدها إبراهيم وهو يلقى في النار، قال تعالى: ﴿ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء:69]..
ووجدها فتية الكهف وهم يهجرون القصور بحثاً عنها، قال تعالى: ﴿ وَإِذِ
اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى
الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ
مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ﴾ [الكهف:16]..
ووجدها يوسف حين قال: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف:33].
ووجدها يونس في ظلمة بطن الحوت، حين قال: ﴿ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ ﴾ [الأنبياء:87].
ووجدها محمد وصاحبه في الغار، قال تعالى: ﴿ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة:40].
ووجدها كل من أوى إلى ربه يائساً من كل من سواه، منقطعاً عمن عداه..
من يفتحها الله له: يجدها في كل شيء وعلى كل حال، في نفسه وفيما حوله، حتى ولو كان محروماً فيما يتراءى للناس من كل شيء..
ومن يمسكها عنه: يفقدها في كل شيء وعلى كل حال، ولو أعطي من كل ما يعتبره الناس غاية الوجود والنعمة..
فرحمة الله ظاهرة في ذوات النفوس، وفي كل مبهم ومحسوس،
وفيما سخر وما لم يسخر، وكلاهما نعمة، وهي نعمة في الممنوع كما هي نعمة في
الممنوح، من يفتحها الله له يجدها في كل شيء وعلى كل حال، وفي كل مكان،
وكيفما كان، وإن عده الناس من أهل الحرمان.. ومن يمسكها الله عنه يفتقدها
في كل شيء وكل وضع وفي أي حال، ولو كان يملك كل أسباب التمكن، وبيده كل
وسائل التنعم والترف..
إن المال.. والولد.. والجاه.. والسلطان.. والصحة..
والقوة.. وغير ذلك، قد تصبح كلها مصادر قلق وتعاسة وتعب ونكد؛ إذا لم
تكتنفها رحمة الله..
فالرزق يفيض مع رحمة الله، فإذا هو متاع طيب رخاء.. رغد
في الدنيا وزاد إلى الآخرة، وبدونها يصبح مصدراً للقلق والخوف والحسد
والبغضاء والبخل والتلف..
والذرية: مع رحمة الله، زينة الحياة وذخر الآخرة وعون على الدنيا، وبدون رحمة الله، هي بلاء ونكد وشقاء وعناء..
والصحة والقوة: مع رحمة الله، هي النعمة والحياة الطيبة، وبدونها، تتحول إلى أداة للظلم والاعتداء ومدعاة للحرام وقائد إلى سوء الحساب..
والسلطان والجاه: مع رحمة الله، أداة صلاح
ومصدر أمن وفلاح في الدنيا والآخرة، وبدون رحمة الله، قلق على فوتهما،
وداعية للطغيان والبغي ومثار للحقد والتنافس، فلا يقر لصاحبهما قرار..
والعمر الطويل.. والمقام الرفيع.. والعلم الغزير: كل ذلك يتغير بما يفتح الله للناس من رحمة وما يمسك عنهم منها..
فأين هي رحمة الله؟!!
إنها ليست في منأى عمن يطلبها، فمن أرادها سيجدها سهلة
ميسرة في أي مكان وأنى يشاء، فقط توجه إلى مصدرها، لتجدها تغمرك وتضمك
وتفيض عليك فيضاً، اطلبها منه سبحانه مباشرة وبلا وساطة، اطلبها بالتوجه
إليه راجياً مطيعاً مستسلماً واثقاً..
لقد أنشأ القرآن بمثل هذه الآية العظيمة ذلك المجتمع
الذي نشأ في صدر الإسلام -تلاميذ محمد صلى الله عليه وسلم-، الذين جسدوا
حياة واقعية تبدو لنا اليوم كما الرؤى والأحلام، ذلك أنهم لم يكونوا
يتعاملون مع مجرد ألفاظ ومعان بلاغية جميلة فحسب، لقد كانوا يتعاملون مع
حقيقة القرآن فيعيشونها واقعاً..
واليوم: لا يزال ذلك القرآن بين أيدينا كما كان بين
أيديهم غضاً طرياً كما هو.. فلماذا لا نحاول أن نقتدي بهم ونتأسى بما كانوا
عليه؟!
إن هذه الآية الكريمة من كتاب الله كفيلة بأن تداوي كل
أدواء النفس، وأن تغسل كل أدران الصدر، فلا هموم ولا وساوس ولا خوف ولا
اضطراب ولا جزع... إلخ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ:
كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
«يَا غُلَامُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ! احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ
اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا
اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ
اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ لَكَ،
لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ
بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ،
قُضِيَ الْقَضَاءُ، وَجَفَّتِ الْأَقْلَامُ، وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ»..
اللهم افتح علينا رحمتك، ولا تمسك عنا فضلك، وكن معنا ولا تكن علينا، برحمتك يا أرحم الراحمين...
الشيخ محمد المحيسني