أبو بكر البغدادي .. المحدث الخطيب
ولد الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي بمدينة غُزية - منتصف الطريق بين الكوفة ومكة - سنة (392 هـ)، وكانت نشأته بقرية تسمى درزيجان، وهي تقع جنوب غرب بغداد، ثم رحل إلى مكة وسمع بالبصرة والدينور والكوفة ودمشق وغيرها، لكنه عاد إلى بغداد فقربه وزير القائم العباسي (ابن مسلمة) وعرف قدره، فأقام بها إلى أن توفي ودفن هناك.
كان أبوه إمام وخطيب قرية درزيجان، وممن تلا القرآن على أبي حفص الكتاني، فحض ولده أحمد على السماع والفقه, فسمع وهو ابن إحدى عشرة سنة, وارتحل إلى البصرة وهو ابن عشرين سنة, وإلى نيسابور وهو ابن ثلاث وعشرين سنة, وإلى الشام وهو كهل، وإلى مكة وغير ذلك، وسمع من أبي عمر بن مهدي الفارسي وأحمد بن محمد بن الصلت الأهوازي وحسين بن الحسن الجـواليقي، وكتب عن عبد الصمد بن المأمون وأبي الحسين بن النقور, وروى عن بعض تلامذته كنصر المقدسي والحميدي.
تردد على حلقة الإمام أبي بكر البرقاني - وكان مبرزًا في علم الحديث - فسمع منه وأجازه، واتصل بالفقيه الشافعي الكبير أبي حامد الإسفرائيني، وتتلمذ على يديه.
كتب الكثير في العلوم المختلفة، وتقدم في شأن الحديث خاصة, وجمع وصنف وصحح, وعلل وجرح, وعدل وأرّخ وأوضح, وصار أحفظ أهل عصره على الإطلاق.
اشتهر بكثرة مروياته وسعة علمه، فروى عنه كثيرون، بعضهم كان من شيوخه، كأبي بكر البرقاني وأبي القاسم الأزهري - وهما من شيوخه - وأبي نصر بن ماكولا والمبارك بن الطيوري وعبد الله بن أحمد بن السمرقندي وأبي منصور الشيباني - راوي "تاريخه" - وأبي منصور بن خيرون المقرئ وأبي الفضل الأرموي, وعدد يطول ذكرهم ويصعب حصرهم.
مناقبه وثناء الأئمة عليه:
كان إماما مفتيا حافظا ناقدا, نعته الإمام الذهبي في السير بـ" الإمام الأوحد صاحب التصانيف وخاتمة الحفاظ "، وقال الحافظ السمعاني: " كان الخطيب مهيبا وقورا, ثقة متحريا حجة, حسن الخط كثير الضبط فصيحا, خُتم به الحفاظ ".
ويقول أبو إسحاق الشيرازي: "أبو بكر الخطيب يشبه بالدارقطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه"، ويقول أبو الفتيان الحافظ: "كان الخطيب إمام هذه الصنعة, ما رأيت مثله".
وقفات مع سيرته:
أهم ما يمكن أن نقف عليه في حياة الإمام أبي بكر الخطيب البغدادي - رحمه الله - :
- فصاحته وبلاغته: كان خطيبًا بليغًا فصيح اللهجة عارفا بالأدب، يقول الشعر، ولوعا بالمطالعة والتأليف، لكنه ورث لقب "الخطيب" من والده على الأرجح، رغم أنه تولى الخطابة في بغداد كما ذكر الإمام ابن كثير في البداية والنهاية.
- سعة حفظه وشدة ضبطه: كان من كبار المحدثين الحفاظ، يقول تلميذه ابن ماكولا: "كان أبو بكر آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة وحفظا وإتقانا وضبطا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وتفننا في علله وأسانيده, وعلما بصحيحه وغريبه وفرده ومنكره ومطروحه, ولم يكن للبغداديين بعد أبي الحسن الدارقطني مثله، وقد سألت أبا عبد الله الصوري عن الخطيب وأبي نصر السجزي: أيهما أحفظ؟ ففضل الخطيب تفضيلا بينا".
وقال أبو علي البرداني: "حدثنا حافظ وقته أبو بكر الخطيب, وما رأيت مثله, ولا أظنه رأى مثل نفسه".
- عبادته وعلمه: كان عالما عابدا صوّاما قوّاما مُكثرا لتلاوة القرآن، يقول أبو الفرح الإسفراييني: "كان الخطيب معنا في الحج, فكان يختم كل يوم ختمة قراءة ترتيل, ثم يجتمع الناس عليه وهو راكب يقولون: حدثْنا, فيحدثهم".
وقال عبد المحسن الشيحي: "كنت عديل أبي بكر الخطيب من دمشق إلى بغداد, فكان له في كل يوم وليلة ختمة".
وفاته:
توفي الإمام أبو بكر الخطيب البغدادي ضحى يوم الاثنين السابع من ذي الحجة سنة (463 هـ), ودفن بباب حرب ببغداد، وتصدق بماله وهو مائتا دينار, وأوصى بأن يتصدق بجميع ثيابه, ووقف جميع كتبه, وقد شيعه الفقهاء والخلق وحملوه إلى جامع المنصور, وكان بين يدي الجنازة جماعة ينادون: هذا الذي كان يذبّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الكذب, هذا الذي كان يحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رحمه الله رحمة واسعة.
منقول