الحرية الفردية .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
توفيق البدري
ثمة نقاش حاد في الساحة الإسلامية اليوم، حول مسألة الحرية الفردية
وحدودها، وعلاقتها بالدين والقانون، ومتى يحق للفرد ممارسة حريته كاملة،
ومتى لا يجوز؟ وهل يعد النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، انتهاكاً
لحرية الأفراد في فعل ما يشتهون، أم وسيلة لترشيد سلوكهم، وتحسين
اختياراتهم.
لقد
ظهر أفراد في بعض المجتمعات الإسلامية يقدمون أنفسهم على أنهم حداثيين
وعلمانيين وأصحاب فكر متنور، يدعون إلى الانعتاق من القيود التي يفرضها
الدين والمجتمع، وذلك بحجة الحرية الفردية، والحق في الاختلاف، والوجود.
في
هذا المقال، سنحاول - بموازين الوحي الرباني وبمقتضيات العقل مناقشة هذه
الدعوة، و استجلاء حقيقتها ودوافعها، والوقوف على التصور الصحيح
لمعالجتها، دونما تشدد أو انفعال عاطفي.
في
البدء ننطلق من هاتين الآيتين، قال الله - تعالى -: (تلك حدود الله فلا
تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون)[1] وقال - سبحانه -:
(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد
العقاب)[2].
إن
الحرية من أهم الحقوق المقررة للإنسان، والأصل أنه لا يجوز بحال بخس هذا
الحق والنيل منه، ولكن الإنسان يعيش في مجتمع لكل فرد من أفراده هذا الحق،
فلو انطلق كل فرد حُرًّا يفعل ما يشاء، لتعارضت حريات الناس واختل نظام
المجتمع، فلا بد إذاً من حدود تقف عندها حرية الفرد، ومن هنا كانت القيود
التي يضعها المجتمع على حرية أفراده، ضوابط لتنظيم حياة الناس أفرادا
وجماعات، وضمانات تحول دون تعرضهم لما يفسد عليهم حياتهم، ويعرضهم لكثير
من المفاسد والشرور.
ولهذا يتعين على المجتمع أن يتعاون أفراده على رعاية وحماية هذه الحدود
والقيود، فلا يسمحون لفرد منهم بأن يتعداها في نفسه أو محيطه[3].
وفي
الوقت الذي أطلق فيه الإسلام الحرية، وخاصة حرية الفكر، قيد حرية الشهوة،
ووضع حولها الضوابط، وراقب سير الأهواء والغرائز بحذر، وأقام أمامها شتى
الحواجز؛ لأن طاقة الإنسان محدودة، فإذا استنفدت في اللهو والمجون بإطلاق،
لم يبق ما يدفعها في طريق الجد والمسؤولية، ولم يجن منها المحيط
الاجتماعي إلا الانحراف عن الجادة. إن الإنسانية إذا كان قد أصابها خير،
فذلك من حرية الفكر والنظر، وإذا كان قد مسها شر، فمن حرية الهوى والعبث.
ولا يجوز الخلط بين الحريتين، فالأولى تدفع نحو السمو والرقي، والثانية
تنزل بالإنسان أسفل سافلين[4].
هذا
الهبوط الذي قد يقع للفرد بسبب اختياراته الحرة، يجب في نظر الشرع منع
حصوله قدر الإمكان بالترغيب والتذكير والتوجيه، وهذا من مقتضيات الشهادة
على الناس. وإذا تعين الأمر والنهي مع الفرد الواحد في هذه الحال، فمع
المجتمع أولى وآكد؛ لأن القضية ترتبط بالمصير المشترك، والمسؤولية
الجماعية، ولا يمكن السكوت عما يقع في المجتمع من انجرار فئات منه نحو
الأهواء والشهوات دون ضوابط الأمر الذي لا يرضاه الدين، ويتنافى مع
الأخلاق، وذلك كله بدعوى حرية الأفراد في التصرف في حياتهم الخاصة كما
يريدون. وقد صور الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الإحساس بالمسؤولية
المشتركة بين أفراد المجتمع فقال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها،
كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها،
فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو
أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا
جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا. " فلو ترك المجتمع كل
واحد يفعل ما يمليه عليه هواه بحجة الحرية الشخصية، لعادت هذه الحرية على
الفرد ذاته والمجتمع بالوبال. وما قيمة الحرية، التي تعني عند البعض،
التمرد على التعاليم الإلهية، وتجاوز الحدود الأخلاقية، والمجاهرة بما
يستفز مشاعر المتدينين، بعدما اتضح وجوب انقياد الفرد وانضباطه للنظام
الاجتماعي الموجود فيه[5] وبهذا تتأكد المسؤولية المشتركة بين أفراد
المجتمع في جميع جوانب الحياة، فهم مسؤولون عن إقامة موازين العدل
والمساواة بين الناس، ومحاربة الظلم والاستغلال والفساد. قال - تعالى -في
هذا الشأن: (والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)[6].
وإذا تقرر هذا، فإن النهوض بواجب الأمر والنهي، هو في حقيقته حماية لكيان
المجتمع كله، ولا يعد اعتداء على حرية بعض الأفراد الذين يسعون بوعي منهم
أو بغير وعي إلى نقض ما هو محل اتفاق وإجماع بين العامة، ومناقضة ما عليه
جمهور المسلمين.
وهذا الوهم أو اللَّبس الذي قد يظهر لدى فئة من الناس، يمكن إزالته
بالتثقيف والتوجيه والتعليم والبيان، وهذه - كما لا يخفى مهمة العلماء
ودعاة الإصلاح والنهوض الحضاري.
وقد
دلت الخبرة الحضارية على أن الثقافة تظل جانبية ما لم تتحول إلى سلوك، أي
ما لم تعمم وتتجسد في واقع الحياة، وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر في هذا الصدد، تحول دون نشر الأفكار الشاذة والمنحرفة في أرجاء
المجتمع، وتلجئها إلى أضيق الطرق، كما أن الأخطاء تظل قابلة للتكرار
والانتشار ما لم يقع التنبيه إليها بصورة دائمة، وهذه الحسبة العظيمة، هي
التي تقوم بهذه الوظيفة الكبيرة. إن انعدام التناهي عن الشر، يفضي إلى تفكك
المجتمع وانحلاله، حيث يتصرف فيه كل فرد وفق هواه ووفق ما يراه مصلحة،
لذا كان إعمال هذا المبدأ على وجهه ووفق شروطه ضرورة شرعية وحضارية لتحصين
المجتمع[7].
وللمسألة أيضا دوافع نفسية محضة لا تخفى، وتتجلى في طبيعة الإنسان نفسه،
الذي يتفلت من التكاليف عادة، ويتذرع بشتى الطرق لإطلاق العنان لغرائزه
وشهواته الظاهرة والخفية، فهو يكره كلمة ممنوع أو حرام، ومن ثم فهو في بحث
موصول عن منفذ للتحرر من قيود الدين والأخلاق ومحاسن العادات، وفي زمننا
الحالي، أضحت الحرية الشخصية ملاذ هؤلاء، ووسيلتهم للتعبير عن تفردهم
وشذوذهم، ويبقى الحوار والبلاغ المبين والجدال بالتي هي أحسن، ومقارعة
الحجة بالحجة، أجدى الطرق للتعامل مع هذه الفئة، لعلها تقتنع بضرورة احترام
القواعد العامة -ولو ظاهرياً- التي تحكم المجتمع، فلا تسعى لاستثارة
مشاعره الدينية بالجهر بما هو مرفوض وحرام، فذلك -قطعاً- ليس من الحرية
الفردية في شيء.
____________
[1] - سورة البقرة، الآية: 228.
[2] - سورة الأنفال الآية: 25.
[3] - محمد كامل حته: القيم الدينية والمجتمع، دار المعارف القاهرة ط/ 1983ص85
[4] - محمد الغزالي: هذا ديننا، ص40
[5] - سعيد رمضان البوطي: الإسلام ملاذ المجتمعات الإنسانية لماذا وكيف؟ ص108
[6] - سورة العصر، الآيات: 1-3.
[7] - انظر: عبد الكريم بكار: مقدمات للنهوض بالعمل الدعوي ص273.