إيجاز الحذف كان معروفا منذ القدم، فكل كلمة تسـقط من العبارة، وتكون مفهومة من سـياق الكلام تدخل في إيجاز الحذف.
وقد عرفه البلاغيون بقولهم: "هو ما يحذف منه كلمة أو جملة أو أكثر مع قرينة
تعين المحذوف، ولا يكون إلا فيما زاد معناه على لفظه"، وهذا يطابق ما قال
عنه "الجرجاني"، بأنه: حـذف بعض متعلق الكلام للقـرينة، وإيجاز الحذف في
اعتبار "الرماني" محاط بشيء من الغموض "للحاجة إلى العلم بالمواضع التي
يصلح فيها الحذف من المواضع التي لا يصلح فيها".
وأما "ابن الأثير" في حديثه عنه يقول: "أنه عجيب الأمر شـبيه بالسحر، وذاك
أنك ترى في ترك الذكـر أفصـح من الذكر، والصمت عن الإفـادة أزيد للإفادة"،
كما يضيف: "والأصل في المحذوفات جميعها أن يكـون في الكلام ما يدل على
المحذوف، فإن لم يكن هناك دليل على المحذوف فإنه لغو من الحديث، ومن شـرط
المحذوف في حـكم البلاغة أنه متى أظهر صار الكلام إلى غصا، لا يناسـب ما
كان عليه أولا من الطلاوة والحسن".
ويجدر أن لا يفوتنا الإشارة إلى أن إيجاز الحذف كان اسمه معروفا عند
"سـيبويه"، فكل حذف كان يراه للإيجاز، وقد مثل له بأمثلة كثيرة، ومن بين
تلك الأمثلة المشهورة التي ذكـرها ولا يزال العلماء يذكرونها من بعده، قوله
تعالى: ) واسـأل القرية التي كنا فيها والعير التي كنا فيها( التي سـيأتي
ذكرها، ضمن الكلام في أساليب إيجاز الحذف، وأوجهه.
وقد أشاد العلماء بفن الحذف كثيراً، فهو فن عظيم من فنون القول، ومسلك دقيق
في التعبير وتأدية المعاني، ترى به في ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن
الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم بياناً إذا
لم تبين.
وبعد، فإن لإيجاز الحذف صور عديدة أساليب متنوعة، وللحذف أيضاً أوجه وشروط، نستبينها فيما يأتي:
أولاً: أساليب إيجاز الحذف
المحذوف في هذا النوع من أساليب الإيجاز يأتي على صور مختلفة، وهي:
أ ) حذف المفرد:
حذف المفرد أنواع، ومنها:
حذف حرف،كقوله تعالى: ) ولم أك بغياً( ، وأصله: ولم أكن، وقوله تعالى
تالله تفتأ تذكر يوسف( ،المراد:لا تفتأ، فحذفت "لا".
حذف مضاف، كقوله تعالى: ) واسـأل القـرية التي كنا فيها والعـير التي أقبلنا فيها( ، أي: واسأل أهل القرية وأصحاب العير.
حذف مضاف إليه، كقـوله تعالى: ) وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر( ، أي: بعشر ليال.
حذف موصوف، كقـوله تعالى: ) وآتينا ثمود الناقة مبصرة( ، فإنه لم يرد أنها
كانت مبصرة، ولم تكن عمياء، وإنما يريد آية مبصرة، فحذف الموصوف الذي
"آية".
حذف صفة، كقوله تعالى: ) وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا( ، أي: كان يأخذ كل سفينة صحيحة أو صالحة غصبا، فحذفت الصفة.
حذف قسم، نحو لأجتهدنّ، أي: والله لأجتهدنّ.
حذف جواب قسـم، كقوله تعالى: ) ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءه منذر منهم( ، إذ التقدير: ق والقرآن المجيد لتبعثنّ بل عجبوا.
حذف الشـرط، نحو: ) اتبعوني يحببكم الله( ،أي: فإن تتبعوني يحببكم الله.
حذف الفعل، كما في قولنا: "بسم الله"، فالمتعلق هنا: أقرأ.
ب) حذف الجملة:
وذلك كقوله تعالى: ) وإذ اسـتسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر
فانفجرت منه اثنتا عشـرة عينا( ، والتقدير: فضرب فانفجرت، ويجوز تقديره
أيضاً: فإن ضربت بها فانفـجرت، ونحو قوله تعالى: ) فتوبوا إلى بارئكم
فاقتلوا أنفسـكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم( ، والتقدير: فامتثلتم
فتاب عليكم.
ج) حذف أكثر من جملة
وذلك كقوله تعالى حكاية عن أحد الفتيين الذي أرسل العزيز إلى يوسف عليه
السلام: ) أنا أنبؤكم بتأويله فأرسلون، يوسف أيها الصديق أفتنا في سـبع
بقرات سـمان…( ، والتقدير: فأرسلوني إلى يوسف لأسـتعبره الرؤيا، ففعلوا،
وذهب إليه، فلما وصـله قال: يوسـف أيها الصـديق… ، وحذفت تلك الجمل لظهور
المـراد.
ومثله ما جاء في قصة سليمان عليه السلام، وقصة الهدهد في إرساله بالكتاب
إلى بلقيـس، قوله تعالى: ) قال سـننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، اذهب
بكتابي هـذا فألقه إليهم، ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعـون، قالت يا أيها
الملأ أني ألقي إلي كتاب كـريم( .
والمحذوف هنا تقديـره: فأخـذ الكتاب وذهب به، فلما ألقـاه إلى المرأة وقرأته قالت يا أيها الملأ.
ثانياً: أوجه الحذف
أجمع العلماء على أن الحذف لا يصاغ إليه إلا إذا بقيت في الكلام قرينة تدل
على المحذوف، حتى لا يصبح البيان ضرباً من التعمية والغموض، لأن شرط جودة
الأسـلوب الوضوح وحسن الدلالة، وهذا الشرط ضروري، لأن الحذف إذا لم يكن فيه
ما يدل على المحذوف جار على اللفظ والمعنى.
فيشترط في الحذف ليكون الكلام سـليماً من النقصان والخلل، أن يوجد دليل يدل على المحذوف، وذلك يكون على وجهين :
أ ) يدل على المحذوف وجود القرينة:
لا يقام شـيء مقام المحذوف، اكتفاء بالقرينة الدالة عليه، وهو كما جاء في الأمثلة المتقدمة ذكرها. ولهذا الوجه من الحذف أدلة، منها:
أن يدل العقل على الحذف والمقصود الأظهر على تعيين المحذوف، (والمقصود
الأظهر يعني: بحسـب العرف المقرر في استعمال الكلام) كقوله تعالى
حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به( ، وقوله
تعالى: ) حرمت عليكم أمهاتكم( ، فإن العقل يدل على الحذف، لما هو مسـلم به
من أن التحـريم يتعلق بالأفعال، لا بالذوات.
أن يـدل العقـل على الحـذف والتعيين، كقوله تعالى: ) وجاء ربك( ، أي جاء أمر ربك أو عذابه أو بأسه.
أن يـدل العقل على الحذف والعادة والتعيين، كقوله تعالى حكاية عن "زليخا": )
فذلكن الذي لمتنّني فيه( ، فإن العقل قد دل على الحذف، لأن الإنسـان إنما
يلام على كسـبه، فإن التقدير يحتمل أن يكون في حبه، لقوله تعالى: ) قد
شغفها حبا( ، وأن يكون في مراودته لقوله تعالى: ) تراود فتاها عن نفسـه( ،
وأن يكون في شـأنه وأمره، فيشـملهما، والعادة دلت على تعيين المراودة، لأن
الإنسـان لا يلام على حبه المفرط في العادة لقهره صـاحبه، وإنما يلام على
التي يقدر أن يدفعها عن نفسـه، وهي المراودة.
أن يدل العقـل على المحذوف والشروع في الفعل على تعيينه، كقول المؤمن عند
الشـروع في أي فعل: "بسم الله الرحمن الرحيم"، أي: باسم الله أقرأ أو أكتب،
فإن المحذوف يقدر ما جعلت التسمية مبدأ له.
أن يدل العقل على المحذوف، واقتران الكلام بالفعل يفيد تقريره، فنقول لمن
أعرس: بالرفاء والبنين، فيكون التقدير: بالرفاء والبنين أعرست.
أن تدل العادة على الحذف والتعيين جميعا، كقوله تعالى: ) لو نعلم قتالاً
لاتبعنـاكم( ، قالوا ذلك مع أنهم أخـبر الناس بالحرب، فيجب تقدير الحذف
وتعيين المحذوف، وهو مكان القتال، والمعنى: أنكم تقاتلون في موضع لا يصلـح
للقتال، ويخشى عليكم منه، ودليل ذلك أنهم كانوا قد أشاروا على رسـول الله
صلى الله عليه وسلم بالبقاء في المدينة والتحصن بها.
ب) يدل على المحذوف وجود ما يقوم مقامه:
أن يقام مقام المحذوف ما يـدل عليه، كقوله تعالى: ) فإن تولوا فقد أبلغتكم
ما أرسلت به إليكم( ، ليس الإبلاغ هو الجواب، لتقدمه على توليهم، والتقدير:
فإن تولوا فلا لوم على لأني قد أبلغتكم، أو: فلا عذر لكم عند ربكم لأني قد
أبلغتكم، فقد جاء مقام المحـذوف "فلا لوم علي" أو "فلا عذر لكم" ما يدل
عليه.
وقوله تعالى: ) وإن يكذبوك فقد كذبت رسـل من قبلك( ، أي: وإن يكذبـوك فلا
تحزن واصبر فإنه قد كذبت رسـل من قبل، المحذوف هنا هو الجواب ولكن أقيم
مقامه: "فقد كذبت رسل من قبلك"، فكان دالاً على المحذوف.
وهكـذا فكما رأينا كان سبب الإيجاز في جميع ما أوردناه هنا من أمثلة هو
الحذف، سـواء أكان حذف المفردات أو جملة أو جمل، فقد سمي هذا بإيجاز حذف،
وفي هذا يسوق ابن الأثير "أن الإيجاز بالحذف أقوى دليلاًً على زيادة
المعاني على الألفاظ، لأنا نرى اللفـظ يدل على معنى لم يتضمنه، وفهم ذلك
المعنى ضرورة لابد منه، فعلمـنا حينئذٍ أن ذلك المعنى الزائد على اللفظ
مفهوم من دلالته عليه".
وكان كل ما تقدم هي الأساليب التي يكون عليها الإيجاز، ونلحظ أنها أساليب
أكسـبته ملامح ومحاسـن بلاغية، فكانت أساليب الإيجاز البلاغي، وهي جذور
امتدت من تقسـيمات علماء البلاغة لها قديما، إلى أن تربعت بين أيدينا الآن.