ومن الأخبار المتّصلة بتعمير زهير أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليه
"وله مائة سنة" فقال: اللهم أعذني من شيطانه"، فما لاك بيتاً حتى مات.
وأقلّ الدلالات على عمره المديد سأمه تكاليف الحياة، كما ورد في المعلّقة
حين قال:
سئمتُ تكاليفَ الحياة، ومَنْ يعِش |
| ثمانينَ حولاً لا أبا لكَ، يسأَمِ |
والمتعارف عليه من أمر سيرته صدق طويته، وحسن معشره، ودماثة خلقه،
وترفعه عن الصغائر، وأنه كان عفيف النفس، مؤمناً بيوم الحساب، يخاف لذلك
عواقب الشرّ. ولعلّ هذه الأخلاق السامية هي التي طبعت شعره بطابع الحكمة
والرصانة، فهو أحد الشعراء الذين نتلمس سريرتهم في شعرهم، ونرى في شعرهم ما
انطوت عليه ذواتهم وحناياهم من السجايا والطبائع. وأكثر الباحثين يستمدّ
من خبر زهير في مدح هرم بن سنان البيّنة التي تبرز بجلاء هذه الشخصية التي
شرفتها السماحة والأنفة وزيّنها حبّ الحق والسّداد: فقدبيءلؤاتلانمة درج
زهير على مدح هرم بن سنان والحارث بن عوف لمأثرتهما في السعي إلى إصلاح ذات
البين بين عبس وذبيان بعد الحرب الضروس التي استمرّت طويلاً بينهما.
وكان هذا السيّدان من أشراف بني ذبيان قد أديا من مالهما الخاص ديّات
القتلى من الفريقين، وقد بلغت بتقدير بعضهم ثلاثة آلاف بعير. قيل إن هرماً
حلف بعد أن مدحه زهير أن لا يكف عن عطائه، فكان إذا سأله أعطاه، وإذا سلّم
عليه أعطاه. وداخل زهير الاستحياء، وأبت نفسه أن يمعن في قبول هبات ممدوحه،
فبات حين يراه في جمع من القوم يقول "عموا صباحاً غير هرم... وخيركم
استثنيت".
ذكر أن ابن الخطاب قال لواحد من أولاد هرم: أنشدني بعض مدح زهير أباك،
فأنشده، فقال الخليفة: إنه كان ليحسن فيكم القول"، فقال: "ونحن والله كنّا
نحسن له العطاء"، فقال عمر بن الخطاب: "قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما
أعطاكم". نعم لقد خلد هرم بفضل مديح زهير الصادق ومنه قوله:
منْ يلقَ يوماً على عِلاّته هرماً |
| يلقَ السماحةَ منه والنّدى خلقَا |
"بعض الآراء في دواوينه": ولزهير ديوان شعر عني الأقدمون والمحدثون
بشرحه. وأبرز الشّراح الأقدمين الأعلم الشنتمري. وفي طليعة من حقّق ديوان
زهير حديثاً المستشرق لندبرغ
في ليدن سنة 1881م. ويدور شعر الديوان في مجمله حول المدح والفخر ودور
زهير في ظروف حرب السباق، وتتوّج الحكمة هذا الشعر بهالة من الوقار تعكس
شخصية الشاعر الحكيم.
وقد اهتم المستشرقون الغربيون بشعراء المعلقات وأولوا اهتماماً خاصاً
بالتعرف على حياتهم، فقد قالت ليدي آن بلنت وقال فلفريد شافن بلنت عن زهير
بن أبي سلمى في كتاب لهما عن المعلقات السبع صدر في بداية القرن العشرين:
شخصية زهير نقيض لإمرئ القيس وطرفة. كان امرؤ القيس وطرفة رجلين طائشين
وحياتهما غير منضبطة، وماتا ميتة عنيفة في عز شبابهما. بينما عاش زهير حياة
طويلة ونال احترام الجميع لحكمته وأخلاقه العالية ولم يكن بحاجة للآخرين.
عاصر الشاعرين المذكورين في مولده، لكنه قارب أيام ظهور الإسلام. يقال إنه
في سن التسعين جاء إلى النبي فاستعاذ منه وقال: "اللهم أعذني من شيطانه"
قول قامت عليه تعاليم بعض علماء المسلمين الذين قالوا بفكرة إن الوحي نزل
على الرسول بالقرآن، وكذلك كان لكل شعراء الجاهلية شيطاناً يوحي لهم بما
يقولون. لا يختلف هذا عن إيمان المسيحيين الأوائل الذين أكدوا على أن أصوات
الشياطين كانت تخرج من أفواه كهنة الوثنيين. يضاف أنه بعد نصيحة الرسول
لزهير لم ينظم الشعر. ويقال إن الخليفة عمر بن الخطاب قال إن زهير كان شاعر
الشعراء. كان سيداً اتسعت ثروته، حكيم، وكان ورعاً حتى في أيام الجاهلية.
كان زهير بن أبي سلمى من قبيلة "مزينة" ويعود من ناحية أم والده إلى
قبيلة "مرة" في الحجاز. يروى إن والد زهير ذهب مع أقربائه من بني "مرة" -
أسد وكعب - في غزوة ضد طيْ، وإنهم غنموا إبلاً عديدة. قال افردا لي سهماً،
فأبيا عليه ومنعاه حقه، فكف عنهما، حتى إذا الليل أتى أمه فقال : والذي
أحلف به لتقومن إلى بعير من هذه الإبل فلتقعدن عليه أو لأضربن بسيفي تحت
قرطيك. فقامت أمه إلى بعير منها فاعتنقت سنامه وساق لها أبو سلمى وهو يرتجز
ويقول: قادهم أبو سلمى من مضارب "مرة" حتى وصل قومه. لم يمض وقت طويل قبل
التحاقه "بمزينة" في غزوة على بني ذبيان، فخذ من "مرة". عندما بلغوا غطفان،
جيران مرة، عاد غزاة مرة خائفين إلى خيام غطفان ومكثوا معهم. وهكذا قضى
زهير طفولته معهم وليس مع قبيلته. يلمح إلى العيش بين الغرباء بقوله : يعرف
أن زهير تزوج مرتين، الأولى إلى أم أوفى، حبيبة شبابه التي يتغنى بها في
المعلقة، والثانية إلى أم ولديه، كعب وبوجير. توفي أبناء أم أوفى، لذا تزوج
ثانية. لم تغفر له أم أوفى زواجه عليها، فهجرها لزلة اقترفتها وإن ندم
لاحقاً. وهذا سبب ندبه.
ذكر ابن العربي
إن زهير كان له ابن يدعى سالم، كان في غاية الوسامة حتى إن امرأة عربية
قالت عندما رأته قرب نبع ماء على صهوة جواده مرتدياً عباءة مخططة بخطين "لم
أر حتى يومنا مثيلاً لهذا الرجل ولا هذه العباءة ولا هذا الجواد". فجأة
تعثر الجواد وسقط، فدقت عنقه وعنق راكبه. ذكر ابن العربي أيضاً إن والد
زهير كان شاعراً، وكذلك أخ أمه وأخته سلمى وأخته الخنساء وابناه وحفيده المضرب بن كعب.
قسم عمه باشاما عند موته ثروته بين أقربائه، لكنه لم يعط زهير شيئاً
بالرغم من حبه له. قال زهير: "وماذا أيضاً، ألم تترك قسطاً لي". أجاب
العجوز: " كلا، تركت لك أفضل ما عندي موهبتي في نظم الشعر". قال زهير: "هذه
خاصتي منذ البداية". لكن العجوز رد: "ليس صحيح، يعلم العرب جيداً أنها
جاءتك مني".
وقال عنه دبليو إى كلوستون
في كتاب من تحريره عن الشعر العربي: تميز زهير بن أبي سلمى منذ نعومة
أظفاره بنبوغه الشعري. كان المفضل عند عمه باشاما، الذي كان بنفسه شاعراً
مشهوراً، لكن عندما أحس العجوز بدنو أجله قسم أملاكه بين أقاربه ولم يترك
لزهير شيئاً. قال زهير: "وماذا أيضاً، ألم تترك قسطاً لي?" أجاب العجوز:
"كلا، تركت لك أفضل ما عندي، موهبتي في نظم الشعر". قال زهير: "هذه خاصتي
منذ البداية". لكن العجوز رد: "ليس صحيح, يعلم العرب جيداً أنها جاءتك
مني".