أهل الحديث هم - كما قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -:
التعريف بأهل الحديث وبفضائلهم للشيخ عمرو عبدالمنعم سليم -حفظه الله-
كل من يستعمل الحديث ( أخرجه السمعاني في " أدب الإملاء والاستملاء "[ص:110]).
وهذا حد دقيق ، فإنه - رحمه الله - فرق به بين من يطلب الحديث لمجرد الطلب ، لا لنشره وتبليغه واستخدامه في مواطن الاحتجاج ، وبين من يطلبه تعلما وتعليما ، ويستخدمه في الاحتجاج والعمل ، ولا يعارضه برأي ولا بهوى ، فمذهبه إليه ، وعمله بمقتضاه ، لا كمن يطلبه تكثرا ، أو يعارضه برأيه أو برأي غيره ، أو يحتج بغرائبه ومناكيره ، ويضرب بها صحاحه وحسانه كما هو معلوم عن كثير من أهل الرأي .
وقد قال الإمام أحمد - رحمه الله - :
تركنا أصحاب الرأي ، وكان عندهم حديث كثير ، فلم نكتب عنهم ، لأنهم معاندون للحديث ، لا يفلح منهم أحد ( مسائل إسحاق بن إبراهيم بن هانىء النيسابوري )[ 1930 ].
فهؤلاء مع أنهم قد طلبوا الحديث ، وكتبوا منه وفرة وكثرة ، إلا أنهم لا ينسبون إلى أهل الحديث ، لأنهم لم يطلبوه للتعلم أو التعليم كما لم يطلبوه للاحتجاج أو للعمل به ، بل هم معاندون له ، مخالفون لمقتضى نصوصه ، فهم أصحاب حيل وزيوف .
فمتى بذل المرء نفسه في طلب العلم ، وسماعه ، وكتابته ، وكتب العالي والنازل ، وقرأ الأصول ، وأدمن مطالعة الأجزاء ، وتفقه في معانيه ، وطلب ناسخه ومنسوخه ، ثم دان الله تعالى به ، وقام بحقه ، والتزم بأوامره ، وانتهى عن نواهيه ، وعظمه باتباعه ، ونشره ، والدعوة إليه ، وتعصب له ، ولم يضرب بعضه ببعض ، ولم يدن بالرأي ، ولم يقدم العقل عليه فهو آنذاك من أهل الحديث .
فإن قيل :
فما الحجة في تثبيت فضل أهل الحديث على غيرهم ؟
فالجواب :
الحجة في ذلك ظاهرة من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتشهد لهم أقوال السلف والأئمة المعتبرين.
وسوف نذكر من ذلك ما تطمئن به قلوب المؤمنين ، ويزدادوا به إيمانا مع إيمانهم ، فنقول :
أما الحجة في ذلك من الكتاب الكريم :
فقوله تعالى : " وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ " [ التوبة : 122 ] .
فهذه الآية مصداق على أهل الحديث ، الذين نفروا لطلب الحديث والفقه في الدين ، فهؤلاء قد رفع الله تعالى بخروجهم لطلب الحديث والفقه الإثم والحرج عن غيرهم ، ومثل هذا لا يتهيأ لأحد كما تهيأ لأهل الحديث .
وقد قال يزيد بن هارون لحماد بن زيد :
يا أبا إسماعيل ، هل ذكر الله عز وجل أصحاب الحديث في القرآن ؟ فقال : بلى ، ألم تسمع إلى قوله : " لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ " .
فهذا في كل من رحل في طلب العلم والفقه ، ويرجع به إلى من وراءه ، يعلمهم إياه ( أخرجه الخطيب البغدادي في " شرف أصحاب الحديث " [ 112 ] بسند صحيح ).
وأما الحجة في ذلك من السنة الشريفة :
فحديث تقدم :
ue]لن تزال طائفة من أمتي منصورين ، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة ] ( أخرجه أحمد [ 34 / 5 ] ، وابن أبي عاصم في " السنة " [ 333 / 2 ] ، وأبو داود الطيالسي [ 1076 ] ، والترمذي [ 2192 ] ، وابن ماجة [ 6 ] ، وابن حبان [ موارد : 2313 ] بسند صحيح من حديث معاوية بن قرة ، عن أبيه به .
وقد فسر الأئمة [ الطائفة المنصورة ] في هذا الحديث بأنهم : أهل الحديث .
ذكر من قال ذلك :
فممن قال ذلك :
1- عبد الله بن المبارك - رحمه الله - قال :
هم عندي أصحاب الحديث ( أخرجه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " [ 42 ] .
2- يزيد بن هارون - رحمه الله - قال :
إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ( أخرجه أبو القاسم الأصبهاني في " الحجة ببيان المحجة " [ 1 / 247 ] ، وهو عند الخطيب [ 41 ] من وجه آخر تالف .
3 - الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - قال :
إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث ، فلا أدري من هم ( أخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث " [ ص : 3 ] ، وصححه الحافظ ابن حجر في " الفتح " [ 13 / 306 ] .
4 - علي بن المديني - رحمه الله - قال :
هم أصحاب الحديث ( أخرجه الترمذي في " الجامع " [ 4 / 485 ] بسند صحيح ، ومن طريقه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " [ 45 ] .
وهو عند الخطيب [ 9 ] من وجه آخر بإسناد واه ) .
قال الخطيب البغدادي - رحمه الله - :
(( قد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حراس الدين ، وصرف عنهم كيد المعاندين ، لتمسكهم بالشرع المتين ، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين .
فشأنهم حفظ الآثار ، وقطع المفاوز والقفار ، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى ، لا يعرجون عنه إلى رأي ولا هوى .
قبلوا شريعته قولا وفعلا ، وحرسوا سنته حفظا ونقلا ، حتى ثبَّتوا بذلك أصلها ، وكانوا أحق بها وأهلها ، وكم من ملحد يروم أن يخلط بالشريعة ما ليس منها ، والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها ، فهم الحفاظ لأركانها ، والقوَّام بأمرها وشأنها إذا صدف عن الدفاع عنها فهم دونها يناضلون : " أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " [ المجادلة : 22 ] ( " شرف أصحاب الحديث " [ ص : 31 ] .
وأما الخبر الثاني في تثبيت فضل أهل الحديث :
- فهو حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه - : عن النبي ، قال :
ue]نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه ، حتى يبلغه غيره ، فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ] ( أخرجه أحمد [ 5 / 183 ] ، وأبو داود [ 3660 ] ، والترمذي [ 2656 ] ، وابن حبان [ 72 و 73 ] بسند صحيح ) .
فهذه هي خاصية أهل الحديث طلب الأحاديث والآثار ، فاستحقوا بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم .
ويروى عن سفيان بن عيينة - رحمه الله - أنه قال :
ما من أحد يطلب الحديث إلا وفي وجهه نضرة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ue]نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه ] ( أخرجه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " [ 23 ] بسند ضعيف ، وإنما أوردناه استئناسا لا احتجاجا ) .
والحديث الثالث في تثبيت فضل أهل الحديث وتقدمهم على غيرهم :
- حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : : ue]بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ غريبا ، فطوبى للغرباء ] ( أخرجه مسلم [ 1 / 130 ] ، وانب ماجة [ 3986 ] من طريق : يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة به ) .
قال عبدان بن أحمد الأهوازي - رحمه الله - :
هم أصحاب الحديث الأوائل ( أخرجه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " [ 34 ] ) .
وأما الحجة في تثبيت فضلهم من أقوال من تقدم من السلف والأئمة المعتبرين :
فهي كثيرة جدا ، وإنما نورد منها بعضها دفعا للتطويل .
- قال سفيان الثوري - رحمه الله - :
الملائكة حراس السماء ، وأصحاب الحديث حراس الأرض ( أخرجه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " [ 80 ] بسند لا بأس به ) .
- وقال يزيد بن زريع - رحمه الله - :
لكل دين فرسان ، وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد ( أخرجه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " [ 81 ] بسند صحيح ) .
- وقال عثمان بن أبي شيبة - رحمه الله - وقد رأى بعض أهل الحديث يضطربون :
أما إن فاسقهم خير من عابد غيرهم ( أخرجه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " [ 94 ] بسند صحيح ) .
- وقال صالح بن محمد الرازي - رحمه الله - :
إن لم يكن أصحاب الحديث هم الأبدال ، فلا أدري من الأبدال ( أخرجه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " [ 95 ] بسند صحيح ) .
- وقال الإمام الشافعي - رحمه الله - :
إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حيا ( أخرجه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " [ 85 ] بسند صحيح ) .
- وقال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - :
ليس قوم عندي خير من أهل الحديث ، ليس يعرفون إلا الحديث .
وقال :
أهل الحديث أفضل من تكلَّلَم بالعلم ( أخرجه الخلال في " العلل " ، ومن طريقه الخطيب [ 90 ] بسند صحيح ) .
قلت : بل شهد لهم من خالفهم في منهجهم كأبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة ، وهو من أهل الرأي .
فقال - وقد خرج يوما وأصحاب الحديث على الباب - :
ما على الأرض خير منكم ، أليس قد جئتم - أو بكرتم - تسمعون حديث رسول الله ( أخرجه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " [ 94 ] بسند صحيح إلى إبراهيم الحربي ، قال : خرج أبو يوسف .... فذكره .
بل شهد لهم إمام المتكلمين في عصره الوليد الكرابيسي ، واعترف لهم بفضلهم ، وأوصى بنيه بالتزام مذهبهم وطريقتهم فعن أحمد بن سنان ، قال :
كان الوليد الكرابيسي خالي ، فلما حضرته الوفاة ، قال لبنيه : تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني ؟ قالوا : لا ، قال : فتتهموني ؟ قالوا : لا ، قال : فإني أوصيكم ، أتقبلون ؟ قالوا : نعم ، قال :عليكم بما عليه أصحاب الحديث ، فإني رأيت الحق معهم ، لست أعني الرؤساء ، ولكن هؤلاء الممزقين ، ألم تر أحدهم يجيء إلى الرئيس منهم ، فيخطئه ، ويهجنه .
قال أبو بكر بن أبي داود : كان أعرف الناس بالكلام بعد حفص الفرد الكرابيسي ، وكان حسين الكرابيسي منه تعلم الكلام ( أخرجه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " [ 105 ] بسند صحيح ) .
فإذا ثبت عندك - مما تقدم ذكره - التعريف بأهل الحديث وبفضلهم ، فلنشرع في ذكر أصولهم التي بنوا عليها منهجهم ودعوتهم إلى الله تعالى مستمدين من الله تعالى العون والتوفيق.
هذا الأصل منقول من كتاب :
الأصول التي بنى عليها أهل الحديث منهجهم في الدعوة إلى الله
للشيخ عمرو عبدالمنعم سليم -حفظه الله-
إنَّ من أعظم المنن التي يمنُّ الله بها على العبد ، أن يُوفقه للعناية بعلم الحديث ، وقضاء أيام العمر بالنظر فيه، إلى أن يُدعى يوم القيامة ليكون تحت لواء إمامه الذي طالما سلك طريقه ، وذهب مذهبه ، وركب مركبه ، وقفا أثره ، ولزم مضماره.
قال بعض السلف في تفسير قول الله تعالى:{يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِم}(الإسراء 71 ):
( هَذَا أَكْبَرُ شَرَفٍ لأَصْحَابِ الحَدِيثِ لأَنَّ إِمَامَهُمْ النَبِيُّ ).
تفسير ابن كثير (3/53)