الشتاء يتثاءب بوجه المدينة ؛ وعقربُ الساعة ينهش بصدر ثواني المساء ليُرخي سدوله عن الدقيقة التاسعة بعد منتصف الوله / الليل ..
وكعادته وفي طريق عودته إلى البيت ؛ والبرد يستوطن عظامه ... كانت السماء تُهدي الثلج لسليتها الأرض , وتُصيِّرها وسادةً غرَّاء كأنامل البيان التي ما أن تضغطُ عليها بتلك الأنامل حتى تُشنِّف مسامعك أنغامُ الثلج السرمدية ...
كان يتذكر أُوقات حبهما حينما كانا يتغنيَّا بأوقاتٍ شتوية كهاتيك آنَ قصدهما البيت سيراً على الأقدام ...
كانا يسيران وهو يخبئ يده اليمنى الغاصة بالارتجاف في معطفه الأدهم , وهيَ تلف يدها اليمنى على يده اليسرى , وتُرخي سدول رأسها المثقل بالأماني على كفته المحمَّل بكرى الأمسيات ؛ ويدها اليسرى تداعب الثلج المنهمر غنجاً من أجل عينيها ...
وقتها كان يُنْثِنْثُ التفاتةً لساعته كي يستجدي الوقت بالتوقف , على الرغم من أن ساعته لم تكن لتدُلِ بأيَّ اهتمامٍ بحشرجة صوته المنهوكِ بِوَجْدِهِ ...
كانا يسيران ؛ والرصيفُ خالٍ سوى من أعمدةِ المصابيح ذات الضوء الباهت ألكلَّلتْهَا الثلوجُ المنهمرة تيجاناً وملوكاً على حُندسِ الليل الشتوي الناصع , ملوكٌ راحت تُبيد السكون صَلفاً ، وتُناغي المقاعد الخشبية المستلقاة على جانبي الرصيف , وتُحرضها على البوح بأسرار معشر العشق الذين كانوا يجلسون عليها ذات مساء , والصمت أحلى ما تنقله الريح الباردة من كلام..
كانت بمحيَّاها الأبيض ألـيضئُ دُجى أيامه وبعينيها الْمُتَّسِعَتان كالبحر وضحكاتها المتلعلعة تحاول كسر صمت تسبيح قدسية ذلك الرصيف والمساء ... فَاستَوْقَفَتْهُ وعلَّقَتْ شالها المسائي على مشجب الحب لتدلج ذريعةً في معطفه ؛ حتى يَرْسُمَا على الدرب ظِلَّهما مبللاً بالعناق , وَطَوَّقت رأسه بذراعيها وسألته:
ــ هل بعد جمال سِحنة هذا المساء والثلج جمال؟!
ــ نعم ؛ أنتِ .. فانهطالُ هذا الثلج لا يكون إلاّ لمداعبة وجنتيكِ ، وسكون الليل ليس إلاّ مُتَبَتِّلٌ في محراب عينيكِ , وما خيط الفجر إلاّ تَقَاطُرِ حياءٍ من بهاء محيَّاك ؛ وما أنا أمامكِ إلاّ كبحارٍ تَرَاكَمَ عليه عفر النسيان ورطوبة الرصيف , مُكسَّرِ الصواري وعديم الشراع قد تاه في بحار الأرض , قد لَفَظَتْهُ المرافئ ؛ بيد أنه بوصلته لا تشير إلا نحوكِ ..
وحملها بين ذراعيه ورح يهرول سامعاً لهاث أنفاسه المتكسرة المتسابقة مع الزمن , ويُسرع ويُسرع ويسرعُ , وما أن وصل إلى البيت حتى يتلعثم الدرب وغاض المدى واختفت عيناها مثل كل مساء ...
لتبدأ الرياح تعصف بخلاخيل بالمدينة , وما أن تهدأ حتى يخرج مُنَقِّباً عنها كما في كُلِّ صباح ..
ومنذُهَا بقي كلٌّ واحدٌ منهم يعثر على الآخر ويضيع نفسه ... ثم يفترقان وكلٌّ منهما يحمِلُ في الجانب الأيسَر من صدره .. شلَلاً !