الحمد لله رب العالمين .. خلق اللوح والقلم.. وخلق الخلق من عدم.. ودبر الأرزاق والآجال بالمقادير وحكم..
وجمل الليل بالنجوم في الظُلَمّ.... الحمد لله رب العالمين.. الذي علا فقهر.. ومَلَكَ فقدر..
وعفا فغفر.. وعلِمَ وستر.. وهزَمَ ونصر.. وخلق ونشر.
اللهم صلى على نبينا مُحمد.. صاحب الكتاب الأبقى.. والقلب الأتقى.. والثوب الأنقى..
خير من هلل ولبى.. وأفضل من طاف وسعى.. وأعظم من سبح ربهُ الأعلى.
اللهم صلى على نبينا مُحمد.. جاع فصبر.. وربط على بطنه الحجر..
ثم أعُطى فشكر.. وجاهد وانتصر ... وبعد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخواني أخواتي مرحبا بكم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبفضله تُغْفَر الذنوب وتُمْحَى السيئات وعلي أبوابه تُسْكَب العَبَرَات وبطاعته تُنَال الخيرات والبركات وبمعصيته تَحِلُّ الأزمات والنكبات والصلاة والسلام علي خير البريات سيد الخلق وإمام السعداء وقائد الغر الميامين إلي رب العالمين سيدنا محمد بن عبدالله صلي الله عليه وسلم.
أيها الباحثون المنقِّبون عن السعادة وأسبابِها يا من تعيشون في حيرة وشتات اقرؤوا معي هذه الكلمات:
نعيش حالة من السعادة والطمأنينة وراحة البال في مواسم الخير ونفحات الرحمن في رمضان والعشر من ذي الحجة وفي الحج وعند صلاة الجمعة و الأيام الطيبة هذه، فنجد صفاء الروح وطمأنينة النفس وقرة العين وبعد انقضاء هذه الأيام تتغير الحال فلا نشعر بما كنا نشعر به، فما السبب في هذه الحال؟ التي نكون عليها في هذه الأيام، وما السبب في تغيرها وانتهاء ثمرتها؟ وكيف الوصول إلي دوام السعادة واستمرار راحة البال؟ ومقام الرضا والطمأنينة؟
السر ليس في الأيام والليالي، وإنما السر في الأعمال التي نعملها في هذه الأيام، السر في الطاعة، في القرآن الذي كنا نقرأه، وفي الصيام الذي يرتقي بالروح ويزكِّي النفس وما فيه من مراقبة لله عز وجل، وفي الصلاة التي هي الصلة بين العبد وربه، والدعاء والتسامح، والتزاور، والتغافر، وصلة الأرحام، والتهادي، وانتشار المودة والمحبة بين الناس.
الطاعة مفتاح السعادة وسبب كل خير:
يقول الله عز وجل ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد:28) أي: تطيب وتركن إلى جانب الله، وتسكن عند ذكره، وترضى به مولى ونصيرًا؛ ولهذا قال:﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ أي: هو حقيق بذلك.﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: فرح وقُرة عين وقال عِكْرِمة: نعم مالهم. وقال الضحاك: غبطة لَهُم. وقال إبراهيم النَّخعي: خير لهم. وقال قتادة: هي كلمة عربية يقول الرجل: "طوبى لك" أي: أصبت خيرًا. وقال في رواية:﴿ طُوبَى لَهُمْ ﴾ حسنى لهم. ﴿وَحُسْنُ مَآبٍ ﴾ أي: مرجع. وهذه الأقوال شيء واحد لا منافاة بينها. تفسير بن كثير.
فذكر الله سبب الراحة والطمأنينة والسعادة، وهو الإيمان وعمل الصالحات. فطوبى لهم وفرح لهم وقُرة عين لهم ونعم مالهم وغبطة لَهُم وخير لهم وحسنى لهم ونعمة لهم وبركة لهم وسعادة لهم وطمأنينة لهم وكل خير لهم. لهم وحدهم وكأن الخير والسعاة واقفة عندهم فلا يَسْعَدُ ولا يُفْلِح ولا يهنأ غيرهم غير أهل الله وأهل طاعته سبحانه وتعالي.
قال أحمد ابن حنبل في الزهد سمعت وهبا يقول: « إن الرب تبارك وتعالى قال في بعض ما يقول لبني إسرائيل: إني إذا أُطِعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإني إذا عُصِيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد » الزهد لابن حنبل ومحاسن التأويل: محمد جمال الدين القاسمي والدر المنثور في التأويل بالمأثور: السيوطي. في تفسير قوله تعالي ﴿...وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا...﴾ (الكهف:82)
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره "إِنَّ فِي الأَلْوَاحِ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِموسى الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾، قَالَ لَهُ: يَا موسى، اعْبُدْنِي وَلا تُشْرِكْ مَعِيَ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ، وَلا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، فَإِنَّهُمْ خَلْقِي كُلُّهُمْ، فَإِذَا أَشْرَكَ بِي غَضِبْتُ، وَإِذَا غَضِبْتُ لَعَنْتُ، وَإِنَّ لَعْنَتِي تُدْرِكُ الرَّابِعَ مِنَ الْوَلَدِ، وَإِنِّي إِذَا أُطِعْتُ رَضِيتُ، فَإِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ، وَالْبَرَكَةُ مِنِّي تُدْرِكُ الأُمَّةَ بَعْدَ الأُمَّةِ، يَا موسى، لا تَحْلِفْ بِاسْمِي كَاذِبًا، فَإِنِّي لا أُزَكِّي مَنْ حَلَفَ بِاسْمِي كَاذِبًا، يَا موسى، وَقِّرْ وَالِدَيْكَ، فَإِنَّهُ مَنْ وَقِّرَ وَالِدَيْهِ مَدَدْتُ لَهُ فِي عُمُرِهِ، وَوَهَبْتُ لَهُ وَلَدًا يُبِرُّهُ، وَمَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ قَصَّرْتُ لَهُ مِنْ عُمُرِهِ، وَوَهَبْتُ لَهُ وَلَدًا يَعُقُّهُ، يَا موسى، احْفَظِ السَّبْتَ، فَإِنَّهُ آخِرُ يَوْمٍ فَرَغْتُ فِيهِ مِنْ خَلْقِي، يَا موسى، لا تَزْنِ وَلا تَسْرِقْ، يَا موسى، لا تُوَلِّ وَجْهَكَ عَنْ عَدُوِّي، يَا موسى، وَلا تَزْنِ بِامْرَأَةِ جَارِكَ الَّذِي يَأْمَنُكَ، يَا موسى، لا تَغْلِبْ جَارِكَ عَلَى مَالِهِ، وَلا تُخْلِفْهُ عَلَى امْرَأَتِهِ". تفسير القرآن العظيم مسندا عن الرسول صلى الله عليه وسلم و الصحابة و التابعين (لابن أبي حاتم )
فالطاعة سبب في الرضا والرضا أصل كل سعادة ومع هذه السعادة بركة، بركة في كل شيء في الرزق وفي العمر وفي الأولاد وفي الزوجة وفي كل شيء وليس لها نهاية أو أنها يأتي عليها يوم فتنفد وتنتهي. فهو سبحانه يملك مفاتيح كل شيء ومنها السعادة والبركة.
ويصدِّق ذلك القرآنُ الكريم إذ يقول ربنا تبارك اسمه ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ*مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ*مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 97-96) لا تشتروا الثمن القليل الذي إذا ما قورن بما عند الله فهو قليل، بل لا يُذكر من قلته، لا تشتروه بعهد الله، بمخالفتكم لما عاهدتم عليه الله من طاعة وامتثال، لا تركنوا إلي المال والثروات والمناصب والدنيا فهي لعاعة لان ما عند الله في الدنيا وفي الآخرة خير مما عندكم فالسعادة التي يشعر بها القلب المتصل بالله خير من كل كنوز الدنيا فالمحروم من حرم لذة المناجاة من حرم طعم الإيمان وفي الحديث عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِىَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ».رواه مسلم. فللإيمان طعم ولذة، وللصلاة طعم ولذة، وللمناجاة طعم ولذة، وللصيام طعم ولذة وللبكاء من خشية الله طعم ولذة من لم يذق هذا الطعم فهو المحروم الخاسر.
وفي الآخرة ما من لذة يتلذذ بها أهل الجنة خير من لذة النظر إلي وجهه الكريم:
عَنْ صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ قَالَ « إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِداً يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ. فَيَقُولُونَ وَمَا هُوَ أَلَمْ يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا (وفي رواية وَيُعْطِنَا كُتُبَنَا بِأَيْمَانِنَا) وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُخْرِجْنَا (وَيُنَجِّنَا) مِنَ النَّارِ. قَالَ فَيُكْشَفُ لَهُمُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئاً أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَلاَ أَقَرَّ لأَعْيُنِهِمْ ». رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد وصححه الألباني.
يقول الشهيد سيد قطب: وأن العمل الصالح مع الإيمان جزاؤه حياة طيبة في هذه الأرض. لا يهم أن تكون ناعمة رغدة ثرية بالمال. فقد تكون به، وقد لا يكون معها. وفي الحياة أشياء كثيرة غير المال الكثير تطيب بها الحياة في حدود الكفاية: فيها الاتصال بالله والثقة به والاطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه. وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة، وسكن البيوت ومودات القلوب. وفيها الفرح بالعمل الصالح وآثاره في الضمير وآثاره في الحياة.. وليس المال إلا عنصراً واحداً يكفي منه القليل، حين يتصل القلب بما هو أعظم وأزكى وأبقى عند الله.
وأن الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الأجر الحسن في الآخرة. في ظلال القرآن.
فيا أهل الله أنتم الأغنياء، وأهل الدنيا وأرباب المال والثروات هم الفقراء، فبارك الله لأهل الدنيا في دنياهم.
ولا مانع بالطبع أن تكون من أهل الله وتكون صاحب مال أو كنوز ولكن تتقي الله فيها فإن الله أراد لنا أن ندخل جنة الدنيا قبل أن ندخل جنة الآخرة. إنما الحديث هنا عمن اشتري الدنيا بعهد الله فخانه.
لا تخطيء الطريق:
طريق السعادة والنعيم والراحة هي طريق الله طريق الطاعة والالتزام بمنهج القرآن هي أن تتعامل بالقرآن فتزرع بالقرآن أي وفق منهج القرآن وتصنع بالقرآن وتتاجر بالقرآن وتمارس كل حياتك بالقرآن فتحيى بالقرآن وتعيش مع القرآن لا طريق غيرها أما من أخطأ الطريق وظن أن طريق السعادة في جمع المال وقال أن التجارة شطارة فغش ودلس في سبيل المال والربح الكثير ووطأ علي رقاب الضعفاء والمساكين باسم التجارة والاقتصاد وتاجر بالأطعمة الفاسدة واحتكر فقد أخطأ الطريق.
ومن حسب أن طريق السعادة في السلطان والجاه وقال إن السياسة خداع ومراوغة فكذب ودلس وزور وقال بالبهتان وظن أن هذه هي الفطنة والذكاء وانتظر من بعدها السعادة فقد أخطأ الطريق.
ومن حسب أن السعادة في الطعام والشراب والنساء والملذات والشهوات فقد أخطأ الطريق وضل ضلالا مبينا.
إنما السعادة أن تطعم بطونا جائعة وتكسوا أجسادا عارية وتداوي أناسا مرضى وأن تخفف عن آلام المتألمين أو أن تزيح الهم والحزن عن المهمومين هذه هي السعادة الحقيقية عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ لَهُ « إِنْ أَرَدْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ ». رواه أحمد وحسنه الألباني. هذه هي مليِّنَات القلوب. فلم يصف له إجازة في مصيف أو أكلة شهية أو نومة هنية أو قصرا مريحا أو سيارة فارهة - ولسنا نحرم شيئا من هذا فربما احتاجها المرء - بل وصف له طاعة يتعدي نفعها إلي غيره، أن يفعل الخير للناس... وهي التي تلين القلب وتزيح عنه قسوته.
فمن حافظ علي المعروف بينه وبين الناس وحافظ علي الخلق الحسن فليشعرن بكل سعادة وكل طيب في الدنيا وله في الآخرة الأجر الجزيل.
قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
وَلَسْت أَرَى السَّعَادَةَ جَمْعَ مَالٍ
وَلَكِنَّ التَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ |
كَانَ ابْنُ عَطَاءٍ يَقُولُ فِي مُنَاجَاتِهِ: مَاذَا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ، وَمَا الَّذِي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ.. لَقَدْ خَابَ مَنْ رَضِيَ بِدُونِكَ بَدَلاً، وَلَقَدْ خَسِرَ مَنْ بَغى عَنْكَ مُتَحَوَّلاً.
ولما حضرت معاذا رضي الله عنه الوفاة قال: اللهم إني قد كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا
وطول البقاء فيها لجرى الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. إحياء علوم الدين والثبات عند الممات - ابن الجوزي ما كان يعجبهم من الدنيا ويسعدهم إلا الساعات التي يخلون فيها مع الله محبوبهم وعلموا أنها طريق الراحة والسعادة والنعيم لذلك كانوا سعداء.
قال إبراهيم بن بشار،: خرجت أنا وإبراهيم بن أدهم، وأبو يوسف الغسولي، وأبو عبد الله السنجاري نريد الإسكندرية، فمررنا بنهر يقال له نهر الأردن، فقعدنا نستريح، وكان مع أبي يوسف كسيرات يابسات، فألقاها بين أيدينا فأكلناها وحمدنا الله تعالى، فقمت أسعى أتناول ماء لإبراهيم، فبادر إبراهيم فدخل النهر حتى بلغ الماء إلى ركبته، فقال بكفيه في الماء فملأها، ثم قال: (بسم الله) وشرب الماء، ثم قال: (الحمد لله)، ثم ملأ كفيه من الماء وقال: (بسم الله) وشرب، ثم قال: (الحمد لله)، ثم إنه خرج من النهر فمد رجليه، ثم قال: يا أبا يوسف، لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا بالسيوف أيام الحياة على ما نحن فيه من لذيذ العيش وقلة التعب، فقلت: يا أبا إسحاق، طلب القوم الراحة والنعيم، فأخطأوا الطريق المستقيم. فتبسم، ثم قال: من أين لك هذا الكلام؟! من كتاب الزهد والرقائق الخطيب البغدادي.
نعم سعادة البسطاء الأتقياء لا تضاهيها حياة الملوك لأنهم يأكلون شهيا ويشربون هنيئا وينامون عميقا لا ينتابهم خوف أو قلق. وآباؤنا وأجدادنا وهم الآن في رغد من العيش ويترحمون علي زمن مضي كانوا فيه يأكلون قليلا مما تخرج الأرض بكسرات من الخبز اليابس ويشربون ربما من الترع وربما شبعوا مرة وجاعوا آخري ولكن كانوا يشعرون بسعادة غامرة افتقدوها مع تطور الحياة وكثرة الخيرات لأنه قد انتزعت البركة من كثير من حياتنا.
أما أصحاب المال والكنوز فيؤرِّقهم الخوف علي ثرواتهم وينغِّص عيشهم القلق علي كنوزهم. وأصحاب السلطان غير العادلين ربما ملكوا شيئا ولكن لم يفوزوا بالسعادة لأن الخوف علي أنفسهم لا يهنئهم بلذة.
أيها الباحثون علي السعادة وراحة البال يا من تدخل إلي بيتك فتجد همًا وغمًا ونكدًا؛ لا تعتاضوا عن الإيمان بالله عَرَض الحياة الدنيا وزينتها، فإنها قليلة، ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له، وجزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به، وحفظ عهده. والمؤمن يحمل بين جنبيه وبداخله قلب سعيد لأنه امتلأ إيمانا وثقة بخالقه وبتدبيره فاستراح قلبه حتى ولو لم ينل من متاع الدنيا شيئا وإن كان في الحقيقة فاز بكل شيء الراحة والسعادة.
عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ ». صحيح مسلم.
النبي صلي الله عليه وسلم يعجب ممن حمل السعادة علي كل حال حتى في الضراء فهو سعيد أو مرتاح ولا يتحصل علي هذه الدرجة إلا بالإيمان إلا بالأنس بالله والرضا بقضائه وقدره.
ثمار الحسنات:
وتأمل معي قول ابن عباس الذي يبين فيه ما يحصده الطائعون من ثمار حسناتهم.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: « إنَّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسَعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق. وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق».
ضياء في الوجه:
وإليك حديث النبي صلي الله عليه وسلم ليطمئن قبلك أن للطاعة ضياءً وبهاءً في الوجه: عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ « نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئاً فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ ». الترمذي وقال حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وفي رواية « نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ».. رواه الترمذي وحسنه وصححه الألباني وأخرجه أحمد و الدارمي و ابن حبان وابن عبد البر و أبو داود الطيالسي عن شعبة بنحوه.
ويقول ربنا عز وجل ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (فصلت: 33)
فمن أفضل ممكن هو مبلغ عن الله وعن رسوله ممن يعمل عند الله من أحسن حظا وأشد ضياء وأعظم بهاء في وجهه ممن دعا له النبي صلي الله عليه وسلم المستجاب الدعوة الكريم علي ربه ليس من هو أفضل من المنشغل بدعوة الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم.
يقول الله تعالي عن مدي السعادة والوضاءة التي يعيشها أهل الله وأصحاب رسوله صلي الله عليه وسلم ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح: 29)
بتلك الصورة الوضيئة التي يرسمها القرآن لواقع صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم وبذلك الثناء الكريم على تلك الجماعة الفريدة السعيدة التي رضي الله عنها وبلغها رضاه فردا فردا، إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة حالاتها الظاهرة والمضمرة فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ ولقطة تصور هيئتهم في عبادتهم ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ والتعبير يوحي كأنما هذه هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم، ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة وهي الحالة الأصيلة لهم في حقيقة نفوسهم ; حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعا سجدا.
ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلها ويجيش بها ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ لقطة لبواطن نفوسهم وأعماق سرائرهم فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة كل ما يشغل بالهم وكل ما تتطلع إليه أشواقهم هو فضل الله ورضوانه ولا شيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به.
ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم وسماتهم ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ومن ذبول العبادة الحي الوضيء اللطيف وليست هذه السمات هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله ﴿مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ فالمقصود بأثر السجود هو أثر العبادة واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها فهو أثر هذا الخشوع أثره في ملامح الوجه حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة ويحل مكانها التواضع النبيل والشفافية الصافية والوضاءة الهادئة والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلا وهذه صفتهم في التوراة، ولقطات متتابعة تصورهم كما هم في الإنجيل ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ والمؤمنون لهم حالات شتى ولكن اللقطات تتناول الحالات الثابتة في حياتهم ونقط الارتكاز الأصيلة في هذه الحياة وتبرزها وتصوغ منها الخطوط العريضة في الصور الوضيئة... وإرادة التكريم واضحة في اختيار هذه اللقطات، وتثبيت الملامح والسمات التي تصورها، إنه التكريم الإلهي لهذه الجماعة السعيدة.
وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر; ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة ذلك مثلهم في التوراة وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى وبشر الأرض بها قبل أن يجيئوا إليها.
وثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيئون وتبقى هكذا نموذجا للأجيال تحاول أن تحققها لتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات وفوق هذا التكريم كله وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم.
وذلك التكريم وحده حسبهم وذلك الرضي وحده أجر عظيم ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولا قيود والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ. ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرنا أن أستشرف وجوه هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله وفي ميزان الله وفي كتاب الله. في ظلال القرآن بتصرف.
أرأيت من أين تأتي السعادة وأين يكون البهاء وبأي شيء تشترى راحة البال إنها العبادة إنه القرب من الله نور السماوات والأرض.
ونوراً في القلب:
إن السائر في طريق مظلمة يصطحب معه مصباحا أو شعلة تضيء له طريقه وإلا تخبط في الظلمات فأصابه الضر من شوك أو أذي أو وقع في حفرة فكسرت عظامه أو شج رأسه. وكذلك السائر في الحياة الدنيا التي هي ممر للحياة الآخر يحتاج إلي مصباح يضيء له طريقه لأن الطريق حالكة الظلام فتن كقطع الليل المظلم ونور هذه الرحلة يستمد من تقوي الله والعمل الصالح من القرآن العظيم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا﴾ (النساء:174) قد جاءكم دليل الفلاح والسعادة ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ*يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ (المائدة: 15- 16).
ويوم أن نتبع هذا النور ونحمل منه شعلا نستضيء بها فثم السعادة في الدارين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾(الحديد:28) فتقوي الله وطاعته هدى يُتَبَصَّر به من العمى والجهالة، وزادهم بمغفرة الذنوب.
ويقول الشهيد سيد قطب في ظلاله في هذه الآية: ونداؤهم على هذا النحو ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فيه لمسة خاصة لقلوبهم واستحياء لمعنى الإيمان وتذكير برعايته حق رعايته ; واستجاشة للصلة التي تربطهم بربهم الذي يناديهم هذا النداء الكريم الحبيب وباسم هذه الصلة يدعوهم إلى تقوى الله والإيمان برسوله فيبدو للإيمان المطلوب معنى خاص معنى حقيقة الإيمان وما ينبثق عنها من آثار ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ﴾ أي يعطكم نصيبين من رحمته وهو تعبير عجيب فرحمة الله لا تتجزأ ومجرد مسها لإنسان يمنحه حقيقتها ولكن في هذا التعبير زيادة امتداد للرحمة وزيادة فيض ﴿وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ﴾ وهي هبة لدنية يُودِعُها الله القلوب التي تستشعر تقواه وتؤمن حق الإيمان برسوله هبة تنير تلك القلوب فتشرق وترى الحقيقة من وراء الحجب والحواجز ومن وراء الأشكال والمظاهر ; فلا تتخبط ولا تلتوي بها الطريق ﴿نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾. فالإنسان إنسان مهما وهب من النور إنسان يقصر حتى لو عرف الطريق إنسان يحتاج إلى المغفرة فتدركه رحمة الله والله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله لتنالوا كفلين من رحمة الله ويكون لكم ذلك النور تمشون به وتدرككم رحمة الله بالمغفرة من الذنب والتقصير.
وفي ذلك يقول ربنا ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ (النــور: 35-36)
وكان من دعائه صلي الله عليه وسلم يَقُولُ « اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُوراً، وَفِي بَصَرِي نُوراً، وَفِي سَمْعِي نُوراً، وَعَنْ يَمِينِي نُوراً، وَعَنْ يَسَارِي نُوراً، وَفَوْقِي نُوراً، وَتَحْتِي نُوراً، وَأَمَامِي نُوراً، وَخَلْفِي نُوراً، وَاجْعَلْ لِى نُوراً». قَالَ كُرَيْبٌ وَسَبْعٌ في التَّابُوتِ. فَلَقِيتُ رَجُلاً مِنْ وَلَدِ الْعَبَّاسِ فَحَدَّثَنِي بِهِنَّ، فَذَكَرَ عَصَبِي وَلَحْمِي وَدَمِي وَشَعَرِي وَبَشَرِي، وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ. رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما.
فالنور والهداية والبصيرة والتوفيق في الحياة يستمد من بيوت الله في الصلاة في السجود لله عز وجل في الخلوة مع الله بالليل في طاعته سبحانه وتعالى.
سئل الحسن البصري ما بال من يقومون الليل وجوههم مضيئة قال: قوم خلوا بالرحمن فكساهم نورا من نوره.
قال أبي بن كعب: ﴿نُّورٌ عَلَى نُورٍ﴾ فهو يتقلب في خمسة من النور، فكلامه نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة. إنها هي السعادة إذا والطمأنينة.
ألا إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه، ثم زارني في بيتي أكرمته، وحَقّ على المَزُور كرامةُ الزائر ابن كثير.
وعن سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ﴿من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر الله وحق على المزور أن يكرم الزائر﴾ قال الألباني رواه الطبراني في الكبير بإسنادين أحدهما جيد. صحيح الترغيب والترهيب.
وروى البيهقي نحوه موقوفا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير وأحد إسناديه رجاله رجال الصحيح. قلت: وله شاهد من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا بلفظ (إن بيوت الله في الأرض المساجد وإن حقا على الله أن يكرم الزائر) الثمر المستطاب في فقه السنة والكتاب للألباني.
قال صاحب الظلال في قوله تعالي:﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء﴾ ممن يفتحون قلوبهم للنور فتراه. فهو شائع في السماوات والأرض، فائض في السماوات والأرض. دائم في السماوات والأرض. لا ينقطع، ولا يحتبس، ولا يخبو. فحيثما توجه إليه القلب رآه. وحيثما تطلع إليه الحائر هداه. وحيثما اتصل به وجد الله. إنما المثل الذي ضربه الله لنوره وسيلة لتقريبه إلى المدارك، وهو العليم بطاقة البشر: ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ذلك النور الطليق، الشائع في السماوات والأرض، الفائض في السماوات والأرض، يتجلى ويتبلور في بيوت الله التي تتصل فيها القلوب بالله، تتطلع إليه وتذكره وتخشاه، وتتجرد له وتؤثره على كل مغريات الحياة، وهناك صلة تصويرية بين مشهد المشكاة هناك ومشهد البيوت هنا، على طريقة التناسق القرآنية في عرض المشاهد ذات الشكل المتشابه أو المتقارب. وهناك صلة مثلها بين المصباح المشرق بالنور في المشكاة، والقلوب المشرقة بالنور في بيوت الله.
﴿.... وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ (النــور:40) ونور الله هدى في القلب؛ وتفتح في البصيرة؛ واتصال في الفطرة بنواميس الله في السماوات والأرض؛ والتقاء بها على الله نور السماوات والأرض. فمن لم يتصل بهذا النور فهو في ظلمة لا انكشاف لها، وفي مخالفة لا أمن فيها، وفي ضلال لا رجعة منه. ونهاية العمل سراب ضائع يقود إلى الهلاك والعذاب؛ لأنه لا عمل بغير عقيدة، ولا صلاح بغير إيمان. إن هدى الله هو الهدى. وإن نور الله هو النور. في ظلال القرآن
والسعادة في الهدي والنور والشقاء والضيق في الغي والظلام. ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام:122)
فيا من تبحثون عن السعادة مع أزواجكم وأولادكم وفي أعمالكم والتوفيق في حياتكم الدنيا والسداد في آرائكم واختياراتكم، الطريق من هنا، ما تبحثون عنه في التقوى في الطاعة في فعل الحسنات في عمل الخيرات. في التقرب إلي الله والبعد عمَّا يغضبه.
روى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ».