السلام عليكم ورحمة الله
في طيبة الطيبة ترتقب القلوب حديث نبيها وتوجيهاته، وترنو العيون إليه - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتلو كلمات الله وقرآنه العظيم، تلك الكلمات التي لأجلها استشهدوا ولأجلها أوذوا ولأجلها حاربوا الدنيا بأسرها، وبها انتصروا على عدوّهم ونفوسهم، وبها ارتقوا على سفاسف الأمور وبائدات الحياة وفانيات اللوامع وهاهي أول جمعة بالمدينة يجمّعها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقف في أصحابه خطيباً قائلاً: (( اتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية، فإنه من يتق الله يكفّر عنه سيئاته، ويعظم له أجراً، ومن يتّق الله فقد فاز فوزاً عظيماً، وإن تقوى الله يوقي مقته، ويوقي عقوبته، ويوقي سخطه، وإن تقوى الله يبيّض الوجوه، ويرضي الربّ، ويرفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، قد علّمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسمّاكم المسلمين من قبل، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة ولا قوة إلا بالله، فأكثروا من ذكر الله، واعملوا لما بعد اليوم، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس، ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العظيم)).
إنّها حقاً بلاغة النبوة، وفصاحة الحق، وقوة المتمسّك بحبل الله المتين، وهي والله جوامع الكلم الذي لا ينطق عن الهوى، بل هو وحي يوحى، يرسم للأمة نهجها، ويقرّ فيها شرعتها ومنهاجها، ويدعها فيه على المحجّة البيضاء، حبل متين وشرع قويم لا يضل من استمسك به ولا يشقى، إنها التقوى ذلك الميزان الذي توزن به مقادير النّاس ومقاماتهم عند الله، (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وهي التقوى تلك الكلمة التي ألزم بها الربّ الجليل أهل عبادته وخلصاءه من خلقه، فجعلهم أحق بها وأهلها، والنّبي الكريم الحكيم ينتقل من موطن طاعة إلى آخر، وهو يوقظ في النفوس زكاتها وفي القلوب رقتها، وفي العقول رجاحتها، فالدنيا خلقت للإنسان دار بلاء وامتحان، وعمل بلا حساب، ولكنها أعقبت بالآخرة حيث حساب ولا عمل، وليأخذ المرء من دنياه ما يحتاجه، وليستمتع بالطيبات من الرزق الحلال، وليبتغ فيما آتاه الله الدار الآخرة ولا يفرط في جنب الله، ولا يعصيه، ولا يجعل من الدنيا التي وهبها له خالقها وسيلة للتنكّر للواهب وعقوقه وعصيانه، والتفريط في جنابه العظيم، ولا تقعدهم زينتها الزائلة، وزهرتها الذابلة، وكينونتها الفانية، عن الدّفاع عن الحق ونصرة المظلوم، والنّفرة في سبيل الله في المنشط والمكره، ولا يدعوهم حبّ الدنيا وكراهة الموت إلى ترك الجهاد في سبيل الله؛ لأن الجهاد في سبيل الله نصرة لله، حياة عن بينة، وتركه هلكة عن بيّنة، والقيام به في سبيل الله، نصرة للمظلومين، من أعلى مراتب الإحسان، وتركه مجلبة للذل والعذاب والمهانة، والأمة التي تريد الحياة وتسعى لأعلى مراتبها الكريمة، مكلفة بحراسة مكتسباتها وعقيدتها وأبناءها بالقوة، والذود عن حماها المقدس بالروح والنفس والنفيس، ويحلّق النبي المشفق بصحبه وأمته في ذرى الروح المخبتة ويرفعهم إلى مصافّ الذاكرين، حين يوجّههم إلى الذّكر الدائم للذي يعلم السرّ وأخفى، وهو المطلع على القلوب المنيبة، يسمع نحيب اشتياقها، وأنين لهفتها، وخوفها من عذابه، ويسمع طرقها اللحوح على بابه، ويرى ارتماءها الذليل على أعتابه، فيرحمها، ويرفعها، ويفتح لها بابه المشرق، وينزّل عليها السكينة، ويمسح بلطفه حزنها، فيصلح ما بينه وبينها، ويكفيها الأذى وأهله والشر ومصادره، ويبدلها بالصبر ذخرا من الكنوز الربانيّة، لا يعلمها إلا هو، فهو المجير ولا يجار عليه، القاضي ولا يقضى عليه، والمالك المتفرد بملكه وعظمته، مالك الملك ذو الجلال والإكرام، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك.
الكاتب : رقية القضاة