نسائم الروح
إن غاية صلة المرء لرحمه، أن يَصِلَ من قطعه، أما لو كان الوِصَالُ مُتبَادَلًا؛ فهذا يُعَدُّ تَكافؤًا، وقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا " [25]!!
2- الهدية الواجبة.. بدعةٌ فاسدة:
أجمع العلماء على أن صلة الرحم واجبة، وأن الهدية مُستحبة!! فجعل كثير من الناس الصِّلَة مستحبة والهدية واجبة، فإن لم تكن هديةٌ فلا صِلَة، فأيُّ فقهٍ سيءٍ هذا عن اللهِ ورسولِه ؟!!!
أخي:
لم يكلفك الله إلا وُسْعَك؛ لِتَصل دَومًا رَحِمَك، ولو بلا هدية، فعند العقلاء: صلتك أَجَلُّ عَطِيَّة، وسُؤَالُك عنهم أَثمنُ هديَّة، وَأبشرُكَ بأن عسرك لن يطول، فَهُوَ إلى زَوالٍ وأُفُول، قال الله تعالى: ﴿ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7]!!
أيحجزك الحياء من المخلوق عن إنفاذ أمر الخالق ؟!! أتخشى ألسنةً لاذعة بأزيد من خشيتك لربك ؟!! فَصِل رَحِمَك بِحَدِّ قدرتك، رضوا أم سخطوا، وتأمل دومًا ما أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث عائشة ل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاس، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاس "[26]!!
هب أنك زرت ثريًا من أرحامك وأنت فقير، هل قُدرَتُكَ كَقُدْرَتِه ؟!! أو هَدِيَّتُكَ كَهَدِيتِه ؟!! فإياك وارتداء ثوب غيرك؛ لئلا تكون كَذَاك الذي أخبرني أنه قال لزواره يومًا: ارجعوا بِهَديتكم؛ فإني أعجز عن قضائها لكم!!!
من فرائد الفوائد
يحصل أن يُمنَعَ المرءُ من وِصَالِ أرحامه؛ كأن يكون رَحِمُهُ غنيًا أو صاحبَ منصبٍ، فلا يحب أن يصله أقربائه؛ خوفًا على ماله، وتكبرًا عليهم، فإثم القطيعة هنا على المَانع لا على الممنوع، والله أعلم،،،
3- تهيأ لِعُقوبةٍ قريبة:
أخرج الترمذي وابن ماجه في سننيهما من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِى الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْبَغْىِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ "[27].
رسالة الحديث:
إنَّ قطيعة الرحم تُوجِبُ العقابَ في الدنيا، فضلًا عن العقاب في الآخرة، وفي قول أبي أوفى: إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم!!!
إليك أسطر خبرًا يبكي القلوب القاسية، والعيون الجافة!!
أعرف رجلًا وأمه وزوجته، يسكنون في بيت واحد، والسعادة تسربلهم من كل جانب، وقدر الله لأم الرجل أن يرزقها الله مالًا كثيرًا، فطمعت فيه زوجة ابنها طمعًا كبيرًا، فعكفت على سلبه منها بدهاء ومكر، فتارة تذكر لها تأثيث البيت، وأخرى ترميم المسكن، إلى أن انتهى المال، فقررت التخلص منها، فكلمت زوجها في دفعها إلى أخيه، فوافق بكل أسف!!
فانتهزت الزوجة خروجها لحاجة؛ فَجَمعت متاعها، فلما حضرت أَمرتْهَا بالذهاب لابنها الآخر؛ بِذَريعة كثرة بقائِها في البيت لوحدها، وهذا يَشُقُّ عليها، فَصُدِمَت الأم المكلومة ولم تتكلم، وخرجت وقد أثقلها الهمُّ، وأحاط بها الغمُّ، وهَزَّها الألم الجم، فما إن وصلت لابنها الآخر نامت، ويبدو أنه لم يعبأ بها، أو يهتم لحالها، وبعد يومين من يومها، تبين له أن أُمَّهُ قد ماتت!!!! وقد أحسن إليها من أحسن، وأساء من أساء!!!
وسبحان المنتقم العَلَّام، القيوم الذي لا ينام، فو الله إن العائلة التي طَرَدت الأم تَشَتتت، وسعادتها ذهبت، وسُمعتها سُلِبَت، بل عاشت الهمومُ معهم، وأبت الخروجَ من بيتهم، وما زال الناس يتناقلون هيمنتهم، وخُبث سيرتهم!!
تاسعًا: سحائب المنن الإلهية
1- محبة أهل، وزيادة مال وأجل:
أخرج الترمذي في سننه بسند صحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَر " [28].
وأخرج البخاري في الأدب المفرد بسند حسن أن ابن عمر م قال: " مَنِ اتَّقَى رَبَّهُ، وَوَصَلَ رَحِمَهُ، نُسِئَ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَثَرَا مَالُهُ، وَأَحَبَّهُ أَهْلُهُ "[29].
رسالة الحديثين:
جعل الله لِوَاصِلِ رحمه قبولًا في أهله، وأكثر له من ماله، وزاد في أجله!!!
حدثتني إحدى أرحامي أنها لم تحتمل هجرة خالها لها من سنوات، فلما التقت به قالت له: والله لتأتيني أنت وزوجتك وأولادك!! أي قطيعة للرحم أنت عليها ؟!! من الذي أخبرك أني أريد هديةً منك ؟!! فجاء الرجل بأهله، فتخبرني -والله- كأن يوم الزيارة يوم عيد عندها، وسيبقى محفورًا في قاموس ذكرياتها!!
وَكُنْ وَاصِلَ الأَرْحَامِ حتَّي لِكَاشح أطايب الكلم بيان قانون الرحم space.gif*** تُوَفَّرُ في عُمْرِ وَرِزْقٍ وَتَسْعَدِ أطايب الكلم بيان قانون الرحم space.gif
2- حبل موصول بالله:
أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ[30] مِنْ الرَّحْمَنِ فَقَالَ اللَّهُ مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ " [31].
وعند المنذري في الترغيب والترهيب بسند حسن: " الرَّحِمُ حجنة مُتَمَسِّكَةٌ بِالْعَرْشِ تَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ ذَلْقٍ: اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي, وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي "[32]!!
رسالة الحديثين:
إن العبد إذا أراد تزكيةً كريمة لنفسه، تُدخِلُهُ على رَبِّهِ، وتُدنِيه منه، وتُقَرِّبُه إليه، وتُصَيِّرُه مَحبوبًا له، فَلْيَصِل رحمه؛ فإنَّ وَاصِلَها مَوصولٌ عنده، وقاطعَها مقطوعٌ عنده، مَحرومٌ من وُدِّه!!
ولما سُئِلَ الشيخُ الدكتور نزار ريان: ما سر توفيق الله لك في العلم والعمل والدعوة والجهاد، فأجاب قائلًا:
تأملت في سبيلٍ يُوصِلُنِي لِرَبِّي؛ فألفيتُه في صلة الأرحام، ووَصلِ الصفوفِ في الصلاة
فمن وصل رَحِمًا أو صفًا وَصَله الله، ومن قطع رَحِمًا أو صفًا قَطَعَهُ الله!!!
ومن ذا الذي يَصِلُ من قطعه الله ؟!!
يؤيدُ هذا ما أفادَهُ ابنُ القيم أن عُمُرَ العبدِ الحقيقي ما كان فيه مُقْبلًا على ربِّه، لا يلتفتُ عنه بِقَلبِه، فإن أعرض كان من جملة الأموات، فيقوم وِصَالُ الرحم بصلةِ القلبِ مع مُقَلِّبِه -عز وجل-؛ فترى بركة الوصال إيمانًا في القلب، وأعمالًا على الجوارح!!!
3- من وصل رحمه؛ حصل سعده، وفرج الله كربه:
تصدى لبيان هذه السحابة الشيخ الشنقيطي فأفاد قائلًا:
وقلّ أن يصلَ عبدٌ رحمه إلا خرج مَسرور النفس، مُنشرح الصدر، قوي العزيمة على طاعة الله -عز وجل-!!
ألا تذكر معي خبر نزلاء الغار الذين أَطبقت الصخرةُ عليهم أن الله جلَّ وعلا فَرَّجَ كَربَهُم، بِقُربَاتٍ ألمعُها عندهم: وصال أحدهم لأبيه وأمه، وقد أسهر كل ليله، حاملًا لهما قدحًا من لَبَنٍ، فما إن توسل لِرَبِّهِ بِهَذِهِ القربة إلا وانفرجت الكربة شيئًا[33]!!
إخوتاه:
صخرةُ القَطيعةِ أغلقت الغَار؛ فهل إلى خُروجٍ من سبيل؟!!!
أيد النابلسي سحابتنا هذه بحادثة ماتعة، إليك بيانها على لسانه:
أحد إخواننا الكرام توفي ابن عمه وكان أستاذًا جامعيًا، فسأل أولاده أمامي: أعلى والدكم دَيْن ؟ قالوا: نعم، قال لهم: أنا قاضيه عنه، فشكروا له صنيعه!!
قال هذا الرجل: تصورت دَيْنَ ابن عمي عشرة آلاف ليرة، تقل قليلًا، أو تزيد قليلًا، فلما كان بعد أيام سألتهم عن قدره؛ فقالوا: [385 ألف ليرة]!!! فو الله لقد دفعتها عَدًا ونقدًا، فما مضت أيام إلا وَبِعْتُ أمتعةً كاسِدَةً عندي من سنوات طويلة، وكان ربحي فيها المبلغ نفسه[34]!!!
فأنت تلحظ أنه وصل رحمه بحد الصلةِ الأعلى، فجاءته سحائبُ المنن الإلهية بالقَدْرِ الذي وَصَلَه، فقد باع كَاسِدًا عنده، فكان ربحُهُ المبلغ الأول نفسه، فسبحان الله العظيم الذي أرانا سننه حوادث تجري بيننا، نراها بأعيننا؛ علَّ الغافل أن يفيق، وتحصل الهداية لمن ضَلَّ الطريق، أو فَقَد الرَّفيق!!
نسائم الروح
قال الشعبي: واللهِ مَا مَاتَ ذُو قَرابةٍ لِي وعليهِ دَيْنٌ؛ إلا وقَضَيتُ عنهُ دينَه!!!
4- الأجر أجران:
أخرج النسائي في سننه بسند صحيح من حديث سلمان بن عامر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ؛ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ " [35].
وأخرج البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث ميمونة أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا وَلَمْ تَسْتَأْذِنْ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ، قَالَتْ: أَشَعَرْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّى قَدْ أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِى فُلاَنَةَ قَالَ:" أَوَ فَعَلْتِ ". قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ:" أَمَا إِنَّهُ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ "[36]!!
رسالة الحديثين:
إذا مددت رحمك بِمَالٍ وعطية، وُهِبْتَ أجر الصدقة من رب البرية، وَكُتِبْتَ فيمن يصلون ما أمر الله به أن يوصل، فأي منة من الله هذه وتفضل ؟!! فإن كنت غنيًا –أٌخَيَّ- فَأدرك الخير وَتَعَجَّل، وَإن كُنتَ فَقِيرًا فَقُلْ: لو رزقتني ربي مالًا؛ كنت أفعل!!
تجربة ثمارها بهية:
أَخْرِجْ جُزءًا من أول مال يصلك، ثم اكتب لرحمك رسالةَ حُب وسلام، ومودة ووئام، تُزينها بالطيب من الكلام، تُؤَلِّف القلب، وتُذَكر بالرب، ثم أعلن إخاءَك وُوُدَّك، وأنك من أكثر الناس محبة لِرَحِمِكَ، وارجُ لهم السعادة في الدنيا، والفلاح في الآخرة؛ لِتَكُون وإيَّاهُم من أهل الفضائلِ والمَعروف، ثم ضَع الرسالةَ والمالَ في مظروفٍ، وزر زيارتك؛ لِتَضع بصمتك، وَتُصِغ تجربتك؛ لِتُحَدِّثَ إخوانك بِعَظِيمِ بهجتك، وسرورك وسعادتك، وانتعاش روحك، جَرِّب! وستذكرون ما أقول لكم!!!!
5- معبرك إلى الجنة:
أخرج ابن ماجه في سننه بسند صحيح من حديث عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- أنه قال: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- {ثَلاَثًا}، فَجِئْت فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ إلَيْهِ، فَلَمَّا تَبَيَّنْت وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ يَتَكَلَّمُ بِهِ أَنْ قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلاَمَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ "[37].
رسالة الحديث:
إن صلة الأرحام؛ مَعبَرُ الجنة بِسَلام، ودِلالَةُ الإيمان، فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ "[38]؛ لِنَعي أن من قَطَع الأرحام؛ لم يُؤمن حَقَّ الإيمان؛ عياذًا بالله من الحرمان والخذلان!!
فَالـزَم أُخَـيَّ صلـةَ رَحِمـك، وارجُ رَبَّـكَ القَبُـول
ألا يَكفِيكَ أنَّها أولُ وَصايا الرَّسول -صلى الله عليه وسلم-!!