عندما لا يبق في صفحة هذا الوجود سوى بقايا أسطر يوشك أن يأتي عليها لسان الضياع ، و توشك امبراطورية الكتاب ، أن تهوي و تنحط لتقع صريعة تحت عجلات الأيام ، ووغز الدهور . أتبصر مملكة الكتاب لأرى جزيرة منبوذة ومهجورة تشتكي من الغربة والوحدة ، وتعيش على نغمات اليأس والتوجع.
فمتى يحن وقت الوصال بين كتاب ظل وفيا في حبه و قارئ طعن في الظهر، وأقبل مدبرا موليا وجهه عن عشقه الأول؟.
والى متى سيظل هذا الفراق مؤلما وموجعا لحبيبين تعانقا في الماضي ، وتحابا تحت جنح المعرفة ، ونسجا علاقات معرفية و فكرية ، أنبتت في الحقل أبناءا و أقوالا؟ دعوني ياسادتي أمتطي جوادكم لأنسج من فكري و فكركم ، قصة امبراطورية الكتاب التي بدأت تدق ناقوس الخطر، وبدأ معه العد التنازلي لسقوطها .
ما الذي جرى لحالنا حتى أصبحنا عازفين عن القراءة ، وعاجزين عن الجنوح نحو المعرفة ، وأصبح الكتاب في عالمنا أسير رفوف ، مكبل الأيدي و الأرجل ، أغبر أشعث لا يجد من ينفض عنه الغبار ، أو يمسح عن جبينه الذل والهوان ، وما علق به من ثوابل النسيان . يسير أعمى في هذه الحياة بلا دليل ؛ فلا يجد في طريقه قارئا يرشده أو يقرؤه كفهرسا لحياته.
ان المجتمع قد أصيب بسرطان القراءة ، وارتفع منسوب الجهل ، والتهميش الورقي ، ودخل في غيبوبة خانقة ، لأن المجتمع الذي لا يقرأ يموت قبل أوانها ، و الأمة العربية في حالة تقهقر و موت سريري ، وفي غرفة الإنعاش ، والحبل الوحيد الذي يمدها بالأكسجين هو حبل المعرفة.
فما أسباب هذا العزوف؟
تتعدد الأسباب التي تفسر هذا العزوف ، و التخلي عن ركب المعرفة منها :
لعنة التكنولوجيا : لقد تطورت حياة الانسان ، باكتشاف التكنولوجيا ، وتسارعت وثيرة الحياة فأصبحت تمر خلسة من بين أيدينا ، دون أن نكشف عن وجهها ، وتطور نمط الحياة ، فتطورت معه القراءة ، لتتحول الى قراءة من زجاج بدل قراءة من ورق ، وذلك عبر اكتشاف الحاسوب الآلي والهواتف الذكية . ولكن اكتشافها أثر سلبا على امبراطورية الكتاب ، صحيح أنه سهل تداولها بأقل الأثمان ، ولكنه أفقدها قيمتها ، لأن قيمة الكتب تكمن في لمسها ، و نسج علاقات حميمية مع الورق . ولكن الأخطر أن لعنة التكنولوجيا ، قد شغلت ألباب الناس ، فأسكرتهم و أنستهم أن هناك جزيرة تأسر ذوي الأذواق وتنقل الجاهل من جهله ، والفقير من فقره ، والمنحط من انحطاطه ، والمتأخر من تأخره . فيصبح الجاهل عالما ، و الفقير غنيا ، والمنحط سامقا ، و المتأخر متقدم الركب . إنها يا سادتي جزيرة الكتاب من دخلها لن يحرم ، ومن أذاق طعمها لن ينته ، ومن تعطر بعطرها لن ينتن.
غياب المكتبات والخزانات : إن من العلل التي يتعلل بها العامة ، هي غياب المكتبات ، صحيح أن العالم العربي ، يعرف غيابا مفضوحا لها .
ولكن الغريب أن هذه المكتبات على قلتها ، تشكو من الكتب التي استقرت في بطونها ، دون أن تجد قارئا يفصح عن حبه لها ، ويعانقها ويبتسم في وجهها ، ويسهر معها سمر الليل . والغريب أيضا ، أن الكتب لا زالت وفية في حبها ، تنتظر فقط من يهمس في أذنها ، و يسمعها نغمات التوق للمعرفة .
غياب ثقافة القراءة : و تعد هذه النقطة من النقاط الأساسية ؛ لأن القراءة ثقافة ، والقراءة تربية ، والقراءة سلوك ، ولكننا لم نحرث ولم نزرع القراءة في تربتنا ، فماذا عساها أن تنبث ؟ وماذاعسانا أن نحصد ؟ إلا زوانا في بيادر الأمة ، ودخانا يحجب النور الساطع ، وعاهات مستديمة تسير على غير هدى في طريق التخلف .
يا أصدقائي ان سفينة الأمة قد أوغلت في أعالي الجهل ، وهي تستنجد بنا لكي ننقدها من المهالك ، و لا سبيل الى ذلك إلا بمصالحة الكتاب ، وجعله خير جليس في الزمان والمكان.
يا أصدقائي إن الكتاب دخل في غيبوبة كلية ، قد تعجل بوفاته ،إنه يتوجع في صمت ، ينتظر من ينفض عنه غبار النسيان ، و أوقات الحرمان . ينتظر من يسكب فيه ماء الحياة ، ينتظر من يشعل أوردة الروح فيه ، ينتظر من يغرس حقوله وردا و فكرا ، ينتظر من يشربه خمرا وحبا ، ومن يأكله خبزا وعشقا.
يا أصدقائي إن جسد القراءة عليل ، ينتظر وصفات العلاج و الترياق المناسب ، ولن يتأتى ذلك إلا بجعل القراءة سلوكا وتربية ، نتعلمها منذ الصغر ، وتكبر وتعيش معنا كل تجاذبات الحياة ، و تصبح القرءة ثقافة وعرف و تقاليد.
يا أصدقائي إن سيدا المجتمع هي أزمة القراءة ، و المجتمع في حالة تقهقر واضمحلال وفناء إذا لم نحيي جسده المتهالك بحقنة العلم و المعرفة . يا أصدقائي إن المكتبات تنتظركم ، أن تطرقواأبوابها ، وتنفضوا العفن عن كتبها ، و تحولوها الى حديقة للفكر و الثقافة .
بقلم : سعيد الفلاق المدرسة العليا للأساتذة الرباط / 2014-2015 .