الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، فيسر لنا أمورنا، واختم لنا بالسعادة، إنك على كل شيء قدير.
أما بعد، فإن الحديث عن المدينتين المقدستين المكرمتين المنورتين يحلو، بقدر محبة المتكلم عنهما لهما. كيف لا وهما بلدتا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فالأولى: مولده وخلقه ونشأته.
والثانية: مهاجره ومضجعه، عليه وآله الصلاة والسلام، ولهما من الفضائل ما لا يوجد لبلد آخر متفرقاً أو مجتمعاً، وهما مهوى أفئدة المؤمنين على مر العصور.
وذلك أن مكانة الشيء إما أن تكون من ذاته؛ بما اتصف به من كمال وجمال... أو بما يحيط به، أو يجاوره... أو بما ورد عنه من فضيلة... الخ، وهكذا كانتا حيث ورد فيهما الكثير لذاتهما، وما فيهما، وبما حل فيهما. فكلاهما حرم، وحرم آمن، وكلاهما بلد صدق، حرمهما الله تعالى، ولم يحرمهما الناس، وأظهر الله تعالى تحريمهما على لسان النبيين الكريمين، والرسولين المبجلين، أب الأنبياء، وخاتم الرسل عليهما وعليهم الصلاة والسلام مدينتان حلت فيهما البركة، فحرسهما الله تعالى بالملائكة الكرام، وهما أحب المدن إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، جعل الأولى مولد النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ومحل نشأته ومبعثه، وجعل الثانية مهاجره ومضجعه، جعل في الأولى أول بيت وضع للناس، وفي الثانية آخر مساجد الأنبياء عليهم السلام.
اختار الله تعالى الأولى لمكان بيته، واختار الثانية لمسجد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فحددهما وعينهما، أمر الناس بالحج إلى الأولى، وبالهجرة إلى الثانية، فكانت في حياته صلى الله عليه وآله وسلم قبل الفتح واجبة، وصارت بعده مندوبة.
دعا للأولى إبراهيم عليه السلام، وللثانية أكرم ولده صلى الله عليه وآله وسلم، جعل القلوب تهوي إليهما، بدعوتيهما عليهما السلام.
مدينتان اضطربت الجبال فيهما تحت قدمي رسوله وصفيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وحن في الثانية الجذع شوقاً إليه، وسلم الحجر والشجر والجبل في الأولى عليه، صلى الله عليه وآله وسلم، وأشبع العدد الكثير فيهما القليل من طعامهما.
مدينتان ضوعف أجر الصلاة فيهما، وشذ الرحل إليهما، وفي ماء الأولى وتراب الثانية وتمرها الشفاء، وبعض أجزائهما من الجنة، ويئس الشيطان أن يعبد فيهما، وجعل رزقهما من ثمرات الأرض، وحرم دخول الكفار إليهما، ومنع الدجال منهما.
مدينتان تشرفتا وأهلهما برسوله صلى الله عليه وآله وسلم، خرج من الأولى إلى الثانية مهاجراً، ثم عاد إليها فاتحاً، وكله رحمة، لذا حث على الموت فيهما، ومن مات فيهما بعث من الآمنين، وأهلهما أول من يحشر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأول من يشفع لهم صلى الله عليه وآله وسلم.
مدينتان جعلهما الله تعالى حرماً آمناً، فحرم الصيد وتنفيره فيهما، وحرم قطع الشجر والكلأ فيهما، وحرم التقاط لقطتهما، وحرم حمل السلاح للقتال، وسفك الدماء فيهما. لا يختلى خلاهما، ولا ينفر صيدهما، ولا تلتقط لقطتهما.
للملحد فيهما أشد العقوبة، ولمن آذى أهلهما النكال، فأهل الأولى هم أهل الله تعالى، وأهل الثانية جيران رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحق على الأمة: إكرام جيرانه صلى الله عليه وآله وسلم.
هما آخر البلاد، حرم على غير المسلمين غزوهما، ومنعهما من الجبابرة، فتناثر أصحاب الفيل بالطير الأبابيل، وغرقت الحملات الصليبية في البحر الأحمر قبل وصولهما، وسيخسف بالجيش الغازي في آخر الزمان بفضل من الله ومنه.
إن من عظم مكانة الحرمين الشريفين أن جعل الله سبحانه وتعالى مكة المكرمة مخرج صدق، وجعل المدينة المنورة مدخل صدق، لكن قدّمه في الذكر لأهميته، فقال جل شأنه: ((وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)) [الإسراء:80].
وقد قال الله سبحانه وتعالى هذه الآية عقب قوله تعالى ((وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قليلاً)) [الإسراء:76].
والذين كادوا يستفزونه من الأرض ليخرجوه منها: هم المشركون من أهل مكة، ولذا توعدهم الله عز وجل، فلم يلبثوا إلا قليلاً، حتى جاءهم القتل يوم بدر، وهذه سنة الله تعالى في الرسل السابقين، حين يفعل أقوامهم كذلك.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه ((وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا)) [الإسراء:80] رواه أحمد والترمذي والحاكم- وصححاه- وغيرهم.
فقد جعلهما الله تعالى كلاهما بلد صدق، وإن كان أهل الأولى قد عذبوه وآذوه صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، لذا سأل صلى الله عليه وآله وسلم سلامة المدخل- لبيان الأهمية حيث قدمت في الذكر قبل سلامة المخرج، ولذا جاءها صلى الله عليه وآله وسلم بعد سنوات قليلاً فاحاً، لكنه كان صلى الله عليه وآله وسلم مسامحاً صافحاً مطهراً،... (فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
كلاهما حرم: ومن عظم مكانتهما ورفعة شأنهما؛ أن جعل الله سبحانه وتعالى كلاً من مكة المكرمة والمدينة المنورة حرماً. وقد استوعبت النصوص- وهي متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم- في "فضائل المدينة المنورة"، وفي "فضائل مكة المكرمة" وأرجو الله تعالى إتمامه على خير ليلحق أخاه.