ﻗﺼّﺔ ﻗﺼﻴﺮﺓ *** ﻓَﻮْﺡُ ﺍﻟﺮّﻏﻴﻒ
ﻣِﻦ ﺍﻷﻓﻖ ﺍﻷﺯﺭﻕ ﺍﻟﺜّﻠﺠﻲّ، ﺗﺄﺗﻲ ﺭﻳﺎﺡُ ﺍﻟﺸّﻤﺎﻝ ﺑﺎﺭﺩﺓً ﻛﺎﻟﻨَّﺼﻞ، ﺗُﺼﻔّﺮ
ﺻﻔﻴﺮﺍ ﻣُﻮﺣﺸﺎ . ﺃﻧﻜﻤﺶُ ﻓﻲ ﺭﻛﻦٍ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﺍﻟﻮﺍﻗﻒِ ﻓﻲ ﺍﻟﺴّﻬﺐ ﺑﻌﻨﺎﺩٍ،
ﻳُﻘﺎﻭﻡُ ﺍﻟﻌﻮﺍﺻﻒَ ﻭﺍﻟﺴّﺎﻓﻴﺎﺕِ . ﺃُﻧﺎﺩﻱ: " ﻳﺎ ﺃﻣّﻲ، ﺃَﻣَﺎ ﻋﻨﺪﻙِ ﺑﻌﺾُ ﻃﻌﺎﻡ؟ "
ﻭﻳﻀﻴﻊُ ﺍﻟﻨّﺪﺍﺀ ﻓﻲ ﻟﺠّﺔ ﺍﻟﻌﺼﻒ . ﻳﻌﻀّﻨِﻲ ﺍﻟﺒﺮﺩُ ﻭﺍﻟﺠﻮﻉُ . ﺃﺷﺘﻬﻲ ﺭﻏﻴﻔﺎ
ﻃﺮﻳّﺎ ﺳﺎﺧﻨﺎ ﺃَﺟﻌﻞُ ﻣﻨﻪُ ﻣﻄﻴَّﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻠﻢ ﻭﺍﻟﺬّﻛﺮﻳﺎﺕ . ﺃُﻧﺎﺩﻱ: " ﻳﺎ ﺃﻣّﻲ،
ﺍﻧﻈﺮﻱ ﻫﻞْ ﻋﻨﺪﻙِ ﺑﻌﺾُ ﺭﻏﻴﻒٍ؟" ﻭﻳﺄﺗﻲ ﺻَﻮﺗُﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺮّﻳﺢ: " ﺍِﻧْﺘﻈِﺮْ ﻗﻠﻴﻼ،
ﻭَﺍﺻْﻄﺒﺮْ ". ﺃُﻧﺎﺩِﻱ " : ﻟِﻤﺎﺫﺍ ﺍﻟﺼَّﺒﺮُ ﻳﺎ ﺃﻣّﻲ؟ ﻓﺎﻟﺠُﻮﻉُ ﺭﻫﻴﺐٌ ". ﻭﺃﺳﻤﻊُ ﺻﻮﺗﻬﺎ
ﺿﺎﺣﻜﺎ ﺫﺍﻫﺒﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺮّﻳﺎﺡ: " ﺃﻧﺖَ ﻻ ﺗَﺼﺒِﺮُ ﻋﻠﻰ ﺷﻲﺀ ﺃﻳُّﻬﺎ ﺍﻟﻮﻟﺪ ". ﻭﻳﻀﻴﻊُ
ﺁﺧﺮُ ﺍﻟﺼّﻮﺕ ﻓﻲ ﺯﺋﻴﺮ ﺍﻟﻌﺎﺻﻔﺎﺕِ . ﺃﻇﻞُّ ﺃﻓﻜِّﺮُ ﻓﻲ ﺃﻣّﻲ ﻭﺭﻏﻴﻔﻬﺎ ﺍﻟﻔﻮّﺍﺡِ
ﺍﻟﻄّﺮﻱّ ﺍﻟﺸّﻬﻲّ ﺍﻟﺴّﺎﺧﻦ، ﻭﺃَﻋﺠَﺐُ ﻣﻦْ ﻗﺪﺭﺗﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺇﻋﺪﺍﺩ ﺃﺭﻏﻔﺔٍ ﻣﺪﻫﺸﺔٍ
ﻛﺎﻟﻤُﺴﺘﺤﻴﻞ .
ﺗَﺄﺗﻲ ﺃﻣّﻲ ﻣُﺒﺘﺴﻤﺔً ﻛﺎﻟﺸّﻤﺲِ، ﺗَﺤﻤﻞُ ﺟﻔﻨﺔً ﻓﻴﻬﺎ ﻗﻤﺢٌ . ﻭﺗﺠﻠﺲُ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺮّﺣﻰ
ﻓَﺘُﻬَﻴِّﺌُﻬﺎ، ﺛﻢّ ﺗﻘﻮﻝ ﻟﻲ: " ﻛﻠّﻬﺎ ﻟﺤﻈﺎﺕ ﻓﻘﻂ، ﺳﺄُﻏﻨّﻲ ﻟﻚ ". ﺛﻢّ ﺗﻨﻄﻠﻖُ ﺗﺮﺣﻲ
ﻭﺗُﻐﻨِّﻲ . ﻛﺎﻧﺖْ ﺗُﺪﻳﺮُ ﺍﻟﺮّﺣﻰ ﺑﻴﺪٍ ﻭﺗُﻀﻴﻒُ ﺣﺒّﺎﺕِ ﺍﻟﻘﻤﺢ ﺑﺎﻷﺧﺮﻯ، ﻓﻼ ﻳﻠﺒﺚُ
ﺃﻥ ﻳﺘﻨﺎﺛﺮ ﺍﻟﺪّﻗﻴﻖُ ﺍﻷﺑﻴﺾُ ﻋﻠﻰ ﺟﻨﺒﺎﺕ ﺍﻟﺮّﺣﻰ ﻣﻜﻮِّﻧًﺎ ﻛﺘﻼ ﺗَﺘَﻨَﺎﻣﻰ ﺷﻴﺌﺎ
ﻓﺸﻴﺌﺎ . ﻭﻛﺎﻧﺖْ ﺗُﺮﺩِّﺩُ ﻟﺤﻨًﺎ ﺷﺠﻴًّﺎ ﻳﻌﺒﻖُ ﺣﻨﻴﻨﺎ ﻭﻳﻨﺴﺠﻢُ ﻣﻊ ﺻﻮﺕ ﺍﻟﺮّﺣﻰ .
ﻳﻤﺘﺰﺝ ﻛﻞّ ﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺓٍ ﻣﺪﻫﺸﺔٍ: ﻋﺼﻒ ﺍﻟﺮّﻳﺎﺡ ﻭﺻﻮﺕ ﺍﻟﺮّﺣﻰ
ﺍﻟﺸّﺠﻲّ ﻭﺃﻏﻨﻴﺔ ﺃﻣّﻲ . ﻳﻐﻤﺮُﻧﻲ ﺩﻑﺀٌ ﻋﺠﻴﺐٌ، ﻓﺘﺤﻤﻠﻨﻲ ﺍﻷﺣﻼﻡُ
ﻭﺍﻟﺬّﻛﺮﻳﺎﺕ .
ﺭﺃﻳﺘُﻨﻲ ﻓﻲ ﻣﻜﺎﻥٍ ﻗﺼﻲٍّ ﻣﻦ ﺍﻟﺪّﻧﻴﺎ، ﻳُﺤﻴﻂ ﺑﻲ ﺧﻼﺀٌ ﻭﺍﺳﻊٌ ﺑﻼ ﺃﻓﻖٍ،
ﻳُﻐﻄّﻴﻪ ﻧﺒﺎﺕٌ ﺷﻮﻛﻲٌّ ﺑُﻨِّﻲٌّ، ﺗﻌﻠﻮﻩُ ﺳﻤﺎﺀٌ ﺭﻣﺎﺩﻳّﺔ ﺑﻼ ﺳُﺤُﺐ . ﻛﺎﻥ ﻣﻜﺎﻧﺎ
ﻣﺴﻄّﺤﺎ ﺑﻼ ﺩُﺭﻭﺏ، ﻳﻠﻒُّ ﺣﻮﻝ ﻧﻔﺴﻪ ﺩﻭﻥ ﺍﺗِّﺠﺎﻫﺎﺕ . ﺃَﺣْﺴَﺴْﺖُ ﺑﺎﻟﻀّﻴﺎﻉ
ﻭﺗﻤﻠّﻜﻨﻲ ﺍﻟﺮّﻋﺐ . ﺟَﺮَﻳْﺖُ ﺩﻭﻥ ﻭﺟﻬﺔ ﻓﺤﺎﺻﺮﻧﻲ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥُ ﺑﺎﻟﻔﺮﺍﻍ . ﺃﺭﺩﺕُ
ﺃﻥ ﺃﺻﺮﺥ ﻓَﺬَﺍﺏَ ﺍﻟﺼّﻮﺕ ﻓﻲ ﺍﻷﻓﻖ ﺍﻟﻐُﺒﺎﺭﻱّ ﺑﻼ ﺻﺪﻯ . ﺃﺻﺒﺢ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥ
ﺟﺤﻴﻤﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺪﻡ . ﻭﻓﺠﺄﺓ، ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻥ ﻏﻴﺮ ﻣﺮﺋﻲٍّ، ﻃﻠﻌﺖ ﺍﻟﺸّﻤﺲُ ﻣُﻀﻴﺌﺔً
ﺑﺎﻫﺮﺓً ﻣُﺆﻧﺴﺔً . ﻭﺍﻧﻜﺸﻔَﺖ ﺍﻟﻈُّﻠﻤﺔُ ﻋﻦ ﺑﺴﺎﻁٍ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺸﺐ ﺍﻟﻨّﺎﺿﺮ ﺍﻟﻄّﺮﻱّ
ﺍﻟﻤُﺰﺧﺮﻑ ﺑِﻨَﺒْﺘَﺎﺕٍ ﻣُﺰﻫﺮﺓ ﺗﺘﻸﻷ ﺃﻟﻮﺍﻧﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﺳﻤﺎﺀٍ ﺯﺭﻗﺎﺀَ ﻛﺎﻟﺤﻠﻢِ . ﻧﻈﺮﺕُ
ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺸّﻤﺲ ﻓﺮﺃﻳﺖُ ﺃﻣِّﻲ ﺗﺄﺗﻲ ﻣُﺒﺘﺴﻤﺔً ﻭﺗَﺄﺧﺬُ ﺑِﻴَﺪِﻱ ﻭﺗَﺴﻴﺮُ ﻓﻲ ﺩﺭﻭﺏٍ
ﻣُﻌﺸﻮْﺷﺒﺔٍ ﺃﻟﻴﻔﺔٍ . ﻛﻨﺖُ ﺃﺭﻳﺪُ ﺃﻥ ﺃﻗﻮﻝ ﻟﻬﺎ ﻛﻼﻣﺎ ﻛﺜﻴﺮﺍ ﻭﻟﻜﻨَّﻨﻲ ﻇﻠﻠﺖُ
ﺻَﺎﻣﺘَﺎ ﺃﺳﻤﻊُ ﻭﻗﻊَ ﺧُﻄﺎﻫﺎ، ﻓَﺼَﺤَﻮْﺕُ .
ﻛﺎﻧﺖ ﺃﻣّﻲ ﻗﺎﺩﻣﺔً ﺗﺤﻤﻞُ ﺟﻔﻨﺔً ﺑﻬﺎ ﺭﻏﻴﻒٌ ﻣُﺬﻫّﺐٌ ﻛﺎﻟﺤﻠﻢ ﻭﺻﺤﻨًﺎ ﺑﻪ
ﺑﻌﺾُ ﺍﻟﺴّﻤﻦ ﻭﻣُﺮﺑَّﻰ ﺍﻟﺘّﻤﺮ . ﺗﻀﻊُ ﻛﻞّ ﺫﻟﻚ ﺃﻣﺎﻣﻲ ﻭﺗﺒﺘﺴﻢُ ﻭﺗﻘﻮﻝ ﻟﻲ:
" ﻫﻞ ﻛﺎﻥ ﺣﻠﻤﺎ ﺟﻤﻴﻼ؟" ﺛﻢّ ﺗﻌﻮﺩُ ﺇﻟﻰ ﺃﺷﻐﺎﻟﻬﺎ . ﻛﻨﺖُ ﺁﻛﻞُ ﻭﺃﻓﻜِّﺮُ ﻓﻲ ﺃﻣّﻲ
ﺍﻟَّﺘﻲ ﺗُﺤﺴﻦُ ﺇﻋﺪﺍﺩَ ﺍﻷﺭﻏﻔﺔ ﺍﻟﺸّﻬﻴّﺔ ﻭﺍﻟﺴّﻤﻦ ﺍﻟﻠّﺬﻳﺬ ﻭﺍﻟﻤﺮﺑّﻰ ﺍﻟﺤﻠﻮ،
ﻭﺗﻌﺮﻑ ﺃﺣﻼﻣﻲ، ﻭَﺗُﺸْﺒِﻪُ ﺍﻟﺸّﻤﺲ ﺣﻴﻦ ﺗﺒﺘﺴﻢُ . ﻭﺃﺧﺎﻑُ، ﺇِﻥْ ﻫﻲ ﺫﻫﺒﺖْ
ﻳﻮﻣًﺎ، ﺃﻥ ﻳﻘﺘﻠَﻨﻲ ﺍﻟﺠﻮﻉُ ﻭﺍﻟﺼّﻘﻴﻊُ .
ﺧﺮﻭﺝ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﺺ : ﻭﻟﻜﻦّ ﺃﻣّﻲ ﺫﻫﺒﺖْ ﻓﻠﻢْ ﺃَﻣُﺖْ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺮﺩِ ﻭﺍﻟﺠﻮﻉِ ﻭﻟﻜﻦْ
ﻗﺘﻠﻨﻲ ﺍﻟﺤﻨﻴﻦُ
الرئيسية 
