بقلم: نبيل فاروق
تراخيتُ في ارتياح, على المقعد
المجاور للسائق, في تلك السيارة التي استأجرتها خصيصا للقيام بآخر زيارة
لي لقطعة الارض الصغيرة التي ورثتها عن عمي في منطقة حلوان
سنوات وانا انتظر هذه اللحظة, منذ وفاة عمي, وقيام اعمامي الآخرون برفع قضية لسلبي حقي من الميراث
سنوات وانا انتظر وحدي
لا.. كان معي الفقر
كنت
فقيرا, استدين اتعاب المحامي الشره, الذي يتابع القضية منذ ثلاث سنوات,
واحيا انا على اقل القليل من القوت والمتع, انتظارا لحكم المحكمة
وحكمت المحكمة اخيرا
واصبحت امتلك قطعة الارض رسميا
واليوم لم اعد امتلكها
لقد بعتها بمبلغ ضخم, لانها تطل على النيل, في منطقة سكنية رائعة, وها انذا احمل ثمنها في حقيبتي, لابدأ حياة اللهو والسعادة
وفجأة لمحت المرصد
مرصد حلوان, حيث يعمل ابن خالتي وهبة, خريج كلية العلوم
وصحت بالسائق: توقف هنا.. عند المرصد
استجاب
السائق لي في بساطة, فقفزت خارج السيارة وانا امسك حقيبة النقود في
احكام, وطلبت من السائق ان ينتظرني, واسرعت الى ابن خالتي, وانا اتساءل عن
سر شوقي الشديد لرؤيته, في هذه اللحظة بالذات
ربما كنت احب ان اطلعه على الامر, ليعلم انني لم اعد فقيرا
او انه زهو الفوز فحسب
ولقد
استقبلني وهبة هذه المرة بابتسامة باهتة, وبقلق ملحوظ وهو يجلس امام ذلك
المرصد الهائل, على نحو جعلني اهتف مستنكرا: هل تحب ان انصرف؟
هتف ببرود: لا صدقني.. لم اقصد ذلك.. لقد كنت مشغولا فحسب
سألته ساخراً: لماذا اهي نهاية الكون؟
شحب وجهه, وهو يحدق في وجهي ذاهلا, قبل ان يغمم في شحوب: كيف عرفت؟
القيت جسدي على المقعد المواجه له, وحدقت في وجهه بدوري, قبل ان اسأله ببلاهة: ماذا عرفت
مال نحوي, مغمما في توتر عظيم: انها نهاية الكون
*******
ظللت
احدق في وجهه ذاهلا, وقد فقدت القدرة على النطق, في حين اعتدل هو واطلق
من اعمق اعماق صدره زفرة هائلة, قبل ان يقول: يالك من مسكين يا ابن خالتي
العزيز.. ألا تعلم ان هذا الكون كله كان في البداية كتلة واحدة, قبل ان
يحدث ما نطلق عليه اسم الانفجار الكبير؟
هززت
رأسي نفيا بنفس البلاهة, فاستطرد في اشفاق العالم على الجهلاء: لقد حدث
هذا منذ بلايين السنين, ومن يومها والكون كله يتمدد, ويتسع ويتباعد بأثر
الانفجار, ومن ذرات الانفجار تتكون المجرات والنجوم والمجموعات الشمسية
والكواكب, والكون يزداد تمددا وتباعدا بلا توقف
وزفر مرة اخرى, قبل ان يستطرد: حتى حدث ما كنا نخشاه جميعا
حاولت
ان اسأله عما يعنيه, ولكن شفتي لم تنفرجا, ولم يخرج من بينهما لفظ واحد,
فيما تابع هو: لقد كشفنا من رصدنا لمواقع المجرات البعيدة منذ شهر كامل,
ان هذه الظاهرة قد توقفت.. اتعلم ما يعنيه هذا؟
هززت رأسي نفيا, فأضاف: يعني ان التمدد قد انتهى, وحانت لحظة رد الفعل
نطق الجملة الاخيرة في صوت رهيب, جعلني اردد في خوف مبهم: رد الفعل
مال
نحوي ولوح بكفيه في انفعال, وهو يقول: نعم.. رد الفعل.. سيبدأ الكون
مرحلة التقلص.. كل المجرات سيرتطم بعضها ببعض, كل النجوم ستنفجر, وكل
الكواكب ستنسحق وتتحول بما عليها ومن عليها الى غبار.. سينها الكون كله
دفعة واحدة.. انه يوم القيامة ولا شك
اتسعت عيناي في رعب هائل
يوم القيامة
الآن..؟؟
يالي من سيء الحظ
احيا عمري كله في فقر مدقع, وعندما تأتيني الاموال, يأتي معها يوم القيامة
ياللهول ..
لن استمتع ابدا بالثراء ..
لن انعم برغد العيش ابدا ..
*******
ولكن مهلا ..
لقد رصدوا هذه الظاهرة منذ شهر, وربما كانت هناك ايام باقية
سأنفق نقودي عن آخرها في هذه الايام الباقية, قبل ان تحين الساعة
سأحيا في رغد ولو اسبوعا واحدا
وفي اهتمام بالغ سألته: ومتى يا وهبة؟.. متى سيحدث هذا؟؟
تراجع في انفعال, واطلق من اعماق صدره زفرة اخرى, قبل ان يجيب في يأس: لن يتأخر هذا كثيرا للأسف
تهاوى الامل في اعماقي, ثم لم يلبث ان استحال فجأة الى غضب عارم, عندما أضاف في مرارة: بليوني عام على الأكثر
وبعدها تسألني ياحضرة الضابط, لماذا لكمته على انفه؟؟؟