الغناء صوت الشيطان الذي يصيد به من قل حظه من العلم والعقل والدين
مقتطفات من كتبه - مقالات مختارة من كتب ابن القيم
ومن مكايد عدو الله ومصايده التى كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء، والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذى يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقة غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكراً منه وغروراً، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجوراً، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا فى حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟ ويحق لهم ذلك، وقد خالط خمارة النفوس، ففعل فيها أعظم ما تفعله حُمَّيه الكؤوس، فلغير الله، بل الشيطان، قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال فى غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخَزَ فى صدورهم وخزاً. وأزَّهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا، فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسُيَطْ الديار. فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، وياشماتة أعداء الإسلام، بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطرباً، واتخذوا دينهم لهواً ولعباً، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكناً، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجداً، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زنداً، حتى إذا تلى عليه قرآن الشيطان، وولج مزمور سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت ، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت، فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان، عند سماع القرآن؟ وهذه الأذواق والمواجيد، عند قراءة القرآن المجيد؟ وهذه الأحوال السنيات، عند تلاوة السور والآيات؟ ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدراً وشرعاً، والمشاكلة سبب الميل عقلاً وطبعاً، فمن هذا أين الإخاء والنسب؟ لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصالحة التى أوقعت فى عقد الإيمان وعهد الرحمن خللاً؟
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُريتَهُ أَوْلِياَءَ مِنْ دُونِى وَهُمْ لكُمْ عَدُو بِئْسَ لِلظّالمِينَ بَدَلا} [الكهف: 50].
ولقد أحسن القائل:
تُلِىَ الكتَابُ، فأطْرَقُوا، لا خِيفَةً لكِنَّهُ إِطْرَاقُ سْاهٍ لاهِى
وأتَى الغِنَاءُ، فكالحَميرِتَنَاهَقُوا وَاللهِ مَا رَقَصُوا لأجْلِ اللهِ
دُفِ وَمِزْمَارٌ، وَنغْمَةُ شَاذِنٍ فمتَى رَأَيتَ عِبَادَةً بملاهى؟
ثَقُلَ الكِتَابُ عليهمُ لَمَّا رَأوْا تَقْيِيدَهُ بأَوَامِرٍ وَنَوَاهِى
سَمِعُوا له رَعْدًا وبَرْقاً، إِذْحَوَى زَجْرًا وتخْوِيفاً مَنَاهِى
وَرَأَوْهُ أَعْظمْ قاطعٍ لِلنَّفسِ عَنْ شهَوَاتِها، ياذبحها المُتَناهِى
وَأتى السماعُ مُوافِقاًأَغْرَاضَها فَلأَجْلَ ذاكَ غَدَا عَظِيمَ الجاهِ
أيْنَ المُسَاعِدُلِلْهَوَىِ مِنْ قاطعٍ أَسْبَابَهُ، عِنْدَ الجَهُولِ السّاهى؟
إنْ لَمْ يَكُنْ خَمَر الجُسُومِ، فإنَّهُ خَمْرُ العُقولِ مُمَاثِلٌ وَمُضَاهِى
فانظْر إِلى النّشْوان عِنْدَ شَرَابَه وانْظُرْ إلى النَّسْوَانِ عِنْدَ مَلاهِى
وانظُرْ إِلى تمْزِيقِ ذَا أَثوَابَهُ مِن بَعْدِ تمزيقِ الفُؤَادِ اللاهِى
واحكم فأىَّ الخمرتين أحق بالتحريم، والتأثيم عند الله؟
وقال آخر:
برِئْنَا إِلَى اللهِ منْ مِعْشَرٍ يهِمْ مَرَضٌ مِنْ سَمَاعِ الغِنَا
وكم قلْتُ يَاقَوْمُ، أَنْتُمْ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مَابِهِ مِنْ بِنَا
شَفَا جُرُفٍ تحْتَهُ هُوَّة إِلى دَرَكٍ، كم بِهِ مِنْ عَنا
وتَكْرَارُ النُّصْحِ مِنا لهم لنُعْذِرَ فِيهِمْ إِلى ربَّنا
فَلمَّا اسْتَّهانُوا بَتَنْبِيهنا رَجَعْنَا إِلى اللهِ فى أَمْرِنا
فعِشْنَا عَلَى سُنَّةِ المُصْطَفَى وَمَاتوُا عَلَى تِنْتِنَا تِنْتِنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان – الجزء الأول