الاضطهادات:
أعمل المشركون الأساليب التي ذكرناها شيئاً فشيئاً لكف الدعوة بعد ظهورها في بداية السنة الرابعة من النبوة، ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهم مقتصرون على هذه الأساليب، لا يتجاوزونها إلى طريق الاضطهاد والتعذيب، ولكنهم لما رأوا أن هذه الأساليب لا تجدي لهم نفعاً في كف الدعوة الإسلامية اجتمعوا مرة أخرى وكونوا منهم لجنة أعضاؤها خمسة وعشرون رجلاً من سادات قريش، رئيسها أبو لهب عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وبعد التشاور والتفكر اتخذت هذه اللجنة قراراً حاسماً ضد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وضد أصحابه. فقررت أن لا تألو جهداً في محاربة الإسلام، وإيذاء رسوله، وتعذيب الداخلين فيه، والتعرض لهم بألوان من النكال والإيلام.
اتخذوا هذا القرار وصمموا على تنفيذه. أما بالنسبة إلى المسلمين - ولا سيما المستضعفين منهم - فكان ذلك سهلاً جداً. وأما بالنسبة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإنه كان رجلاً شهماً وقوراً ذا شخصية فذة تتعاظمه نفوس الأعداء والأصدقاء بحيث لا يقابل مثلها إلا بالإجلال والتشريف، ولا يجترىء على اقتراف الدنايا والرذائل ضده إلا أرذال الناس وسفهاؤهم، ومع ذلك كان في منعة أبي طالب، وأبو طالب من رجال مكة المعدودين كان معظماً في أصله، معظماً بين الناس، فما يجسر أحد على إخفار ذمته واستباحة بيضته، إن هذا الوضع أقلق قريشاً وأقامهم وأقعدهم، ولكن إلام هذا الصبر الطويل أمام دعوة تتشوف إلى القضاء على زعامتهم الدينية، وصدارتهم الدنيوية.
وبدأوا الاعتداءات ضد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى رأسهم أبو لهب، فقد اتخذ موقفه هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول قبل أن تهم قريش بذلك. وقد أسلفنا ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس بني هاشم، وما فعل على الصفا، وقد ورد في بعض الروايات أنه - حينما كان على الصفا - أخذ حجراً ليضرب به النبي صلى الله عليه وسلم .
وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة بنتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدة حتى طلقاهما.
ولما مات عبد اللَّه - الابن الثاني لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - استبشر أبو لهب، وهرول إلى رفقائه يبشرهم بأن محمداً صار أبتر.
وقد أسلفنا أن أبا لهب كان يجول خلف النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج والأسواق لتكذيبه، قد روى طارق بن عبد اللَّه المحاربي ما يفيد أنه كان لا يقتصر على التكذيب بل كان يضربه بالحجر حتى يدمي عقباه.
وكانت امرأة أبي لهب - أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان - لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت تحمل الشوك وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بابه ليلاً، وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حرباً شعواء على النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب.
ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فهر أي بمقدار ملء الكف من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ اللَّه ببصرها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، واللَّه لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما واللَّه إني لشاعرة. ثم قالت:
مذمماً عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
ثم انصرفت، فقال أبو بكر يا رسول اللَّه أما تراها رأتك؟ فقال: ما رأتني، لقد أخذ اللَّه ببصرها عني.
وروى أبو بكر البزار هذه القصة. وفيها أنها لما وقفت على أبي بكر قالت: أبا بكر هجانا صاحبك، فقال أبو بكر لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر ولا يتفوّه به، فقالت: إنك لمصدق.
كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وجاره كان بيته ملصقاً ببيته كما كان غيره من جيران رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يؤذونه وهو في بيته.
قال ابن إسحاق كان النفر الذين يؤذون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلي - وكانوا جيرانه - لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم حجراً ليستتر به منهم إذا صلى، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود فيقف به على بابه، ثم يقول يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟ ثم يلقيه في الطريق.
وازداد عقبة بن أبي معيط في شقاوته وخبثه، فقد روى البخاري عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس إذ قال بعضهم لبعض أيكم يجيء بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد. فانبعث أشقى القوم (وهو عقبة بن أبي معيط) فجاء به فنظر، حتى إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضع على ظهرهبين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئاً لو كانت لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعض (أي يتمايل بعضهم على بعض مرحاً وبطراً) ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساجد، لا يرفع رأسه حتى جاءته فاطمة، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: اللهم عليك بقريش ثلاث مرات، فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم، وقال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط - وعد السابع فلم يحفظه - فوالذي نفسي بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب، قليب بدر.
وكان أمية بن خلف إذا رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه. وفيه نزل: {ويل لكل همزة لمزة} قال ابن هشام: الهمزة: الذي يشتم الرجل علانية، ويكسر عينيه، ويغمز به، واللمزة: الذي يعيب الناس سراً ويؤذيهم.
أما أخوه أبي بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين. وجلس عقبة مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فلما بلغ ذلك أبياً أنبه وعاتبه وطلب منه أن يتفل في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ففعل. وأبى بن خلف نفسه فت عظماً رميماً ثم نفخه في الريح نحو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
وكان الأخنس بن شريق الثقفي ممن ينال من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقد وصفه القرآن بتسع صفات تدل على ما كان عليه، وهي في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 10-13].
وكان أبو جهل يجيء أحياناً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى ويؤذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل اللَّه، ثم يذهب مختالاً بما يفعل، فخوراً بما ارتكب من الشر، كأنما فعل شيئاً يذكر، وفيه نزل: {فلا صدَّق ولا صلى}...الخ وكان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة منذ أول يوم رآه يصلي في الحرم، ومرة مر به وهو يصلي عند المقام فقال: يا محمد ألن أنهك عن هذا، وتوعده فأغلظ له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وانتهره. فقال: يا محمد بأي شيءٍ تهددني؟ أما واللَّه إني لأكثر هذا الوادي نادياً. فأنزل فليدع ناديه وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه وهزه وهو يقول له: {أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى} فقال عدو اللَّه أتوعدني يا محمد؟ واللَّه لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً، وإني لأعز من مشى بين جبليها.
ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا الانتهار، بل ازداد شقاوة فيما بعد. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهؤلاء أجنحة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً.
كانت هذه الاعتداءات بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع ما لشخصيته الفذة من وقار وجلال في نفوس العامة والخاصة، ومع ما له من منعة أبي طالب أعظم رجل محترم في مكة، أما بالنسبة إلى المسلمين - ولا سيما الضعفاء منهم - فإن الإجراءات كانت أقسى من ذلك وأمر، ففي نفس الوقت قامت كل قبيلة تعذب من دان منها بالإسلام أنواعاً من التعذيب، ومن لم يكن له قبيلة فأجرت عليهم الأوباش والسادات ألواناً من الاضطهاد يفزع من ذكرها قلب الحليم.
كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال والجاه، وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به.
وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته.
ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشاً فتخشف جلده تخشف الحية.
وكن بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلاً، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، حتى كان يظهر أثر الحبل في عنقه، وكان أمية يشده شداً ثم يضربه بالعصا، وكان يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول لا واللَّه لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى فيقول وهو في ذلك أحد، أحد، حتى مر به أبو بكر يوماً وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل بسبع أواق أو بخمس من الفضة وأعتقه.
وكان عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون - وعلى رأسهم أبو جهل - يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها. ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية - أم عمار - في قبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر أحمر على صدره أخرى، وبالتغريق أخرى. وقالوا: لا نتركك حتى تسب محمداً، أو تقول في اللات والعزى خيراً فوافقهم على ذلك مكرهاً، وجاء باكياً معتذراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فأنزل اللَّه {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106].
وكان أبو فكيهة - واسمه أفلح - مولى لبني عبد الدار، فكانوا يشدون برجله الحبل، ثم يجرونه على الأرض.
وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سباع الخزاعية، فكان المشركون يذيقونه أنواعاً من التنكيل، يأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذباً، يلوون عنقه تلوية عنيفة وأضجعوه مرات عديدة على فحام ملتهبة، ثم وضعوا عليه حجراً حتى لا يستطيع أن يقوم.
وكانت زنيرة والنهدية وابنتها وأم عبيس إماء أسلمن، وكان المشركون يسومونهن من العذاب أمثال ما ذكرنا. وأسلمت جارية لبني مؤمل - وهم حي من بني عدي - فكان عمر بن الخطاب - وهو يومئذ مشرك - يضربها، حتى إذا مل قال: إني لم أترك إلا ملالة.
وابتاع أبو بكر هذه الجواري فأعتقهن، كما أعتق بلالاً وعامر بن فهيرة.
وكان المشركون يلفون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر، ثم يلقونه في حر الرمضاء، ويلبسون بعضاً آخر درعاً من الحديد ثم يلقونه على صخرة ملتهبة.
وقائمة المعذبين في اللَّه طويلة ومؤلمة جداً، فما من أحد علموا بإسلامه إلا تصدوا له وآذوه.
دار الأرقم:
كان من الحكمة تلقاء هذه الاضطهادات أن يمنع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسلمين عن إعلان إسلامهم قولاً أو فعلاً، وأن لا يجتمع بهم إلا سراً، لأنه إذا اجتمع بهم علناً فلا شك أن المشركين يحولون بينه وبين ما يريد من تزكية المسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة، وربما يفضي ذلك إلى مصادمة الفريقين، بل وقع ذلك فعلاً في السنة الرابعة من النبوة، وذلك أن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها سراً، فرآهم نفر من كفار قريش، فسبوهم وقاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً فسال دمه، وكان أول دم هريق في الإسلام.
ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم فكان من الحكمة الاختفاء، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم، أما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهراني المشركين، لا يصرفه عن ذلك شيء، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سراً؛ نظراً لصالحهم وصالح الإسلام، وكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا. وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم، فكان اتخذها مركزاً لدعوته، ولاجتماعه بالمسلمين من السنة الخامسة من النبوة.
الهجرة الأولى إلى الحبشة:
كانت بداية الاضطهادات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأت ضعيفة ثم لم تزل يوماً فيوماً وشهراً فشهراً حتى اشتدت وتفاقمت في أواسط السنة الخامسة، حتى نبا بهم المقام في مكة، وأوعزتهم أن يفكروا في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم، وفي هذه الساعة الضنكة الحالكة نزلت سورة الكهف ردوداً على أسئلة أدلى بها المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنها اشتملت على ثلاث قصص، فيها إشارات بليغة من اللَّه تعالى إلى عباده المؤمنين، فقصة أصحاب الكهف ترشد إلى الهجرة من مراكز الكفر والعدوان حين مخافة الفتنة على الدين، متوكلاً على اللَّه {وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف: 16].
وقصة الخضر وموسى تفيد أن الظروف لا تجري ولا تنتج حسب الظاهر دائماً. بل ربما يكون الأمر على عكس كامل بالنسبة إلى الظاهر، ففيها إشارة لطيفة إلى أن الحرب القائمة ضد المسلمين ستنعكس تماماً، وسيصادر هؤلاء الطغاة المشركون - إن لم يؤمنوا - أمام هؤلاء الضعفاء المدحورين من المسلمين.
وقصة ذي القرنين تفيد أن الأرض للَّه يورثها من عباده من يشاء. وأن الفلاح إنما هو في سبيل الإيمان دون الكفر، وأن اللَّه لا يزال يبعث من عباده - بين آونة وأخرى من يقوم بإنجاء الضعفاء من يأجوج ذلك الزمان ومأجوجه. وأن الأحق بإرث الأرض إنما هو عباد اللَّه الصالحون ثم نزلت سورة الزمر تشير إلى الهجرة، وتعلن بأن أرض اللَّه ليست ضيقة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد علم أن أصحمة النجاشي ملك الحبشة ملك عادل. لا يظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فراراً بدينهم من الفتن.
وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة،كان مكوناً من اثني عشر رجلاً وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه السيدة رقية بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما إنهما أول بيت هاجر في سبيل اللَّه بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام.
كان رحيل هؤلاء تسلالاً في ظلمة الليل - حتى لا تفطن لهم قريش - خرجوا إلى البحر يمموا ميناء شعيبة، وقيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، وفطنت لهم قريش، فخرجت في آثارهم، لكن لما بلغت إلى الشاطىء كانوا قد انطلقوا آمنين، وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار.
وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم، وهناك جمع كبير من قريش، كان فيه ساداتها وكبراؤها، فقام فيهم، وأخذ يتلو سورة النجم بغتة، إن أولئك الكفار لم يكونوا سمعوا كلام اللَّه قبل ذلك، لأن أسلوبهم المتواصل كان هو العمل بما تواصى به بعضهم بعضاً، من قولهم {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم كلام إلهي رائع خلاب - لا يحيط بروعته وجلالته البيان - تفانوا عما هم فيه، وبقي كل واحد مصغياً إليه، لا يخطر بباله شيء سواه. حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب، ثم قرأ {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] ثم سجد. لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجداً. وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا للَّه ساجدين.
وسقط في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام اللَّه لوى زمامهم، فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهده في محوه وإفنائه، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير، وأنه قال عنها: "تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى" جاءوا بهذا الإفك المبين، ليعتذروا عن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس يستغرب هذا من قوم كانوا يؤلفون الكذب، ويطيلون الدس والافتراء.
بلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تماماً عن صورته الحقيقية، بلغهم أن قريشاً أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار، وعرفوا جلية الأمر رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفياً، أو في جوار رجل من قريش.
ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش، وسطت بهم عشائرهم، فقد كان صعباً على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بداً من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى، وكانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، ويسر اللَّه لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا.
وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلاً إن كان فيهم عمار، فإنه يشك فيه، وثمان عشرة أو تسع عشرة امرأة. وبالأول جزم العلامة محمد سليمان المنصور فوري.
مكيدة قريش بمهاجري الحبشة:
عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمناً لأنفسهم ودينهم. فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما عمرو بن العاص، وعبد اللَّه بن أبي ربيعة - قبل أن يسلما - وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهدايا كما كلماه، فقالا له
أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، لم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم، لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه.
وقالت البطارقة: صدقاً أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.
ولكن رأى النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعاً. فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائناً ما كان. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟
قال جعفر بن أبي طالب - وكان هو المتكلم عن المسلمين -: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسيء الجوار، ويأكل منا القوي الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث اللَّه إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى اللَّه لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد اللَّه وحده، لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام - فعدد عليه أمور الإسلام - فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين اللَّه، فعبدنا اللَّه وحده، فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللَّه تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن اللَّه من شيء؟ فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ فقرأ عليه صدراً من {كهيعص} فبكى واللَّه النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا واللَّه لا أسلمهم إليكما ولا يكادون - يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه - فخرجا، وقال عمرو بن العاص لعبد اللَّه بن ربيعة واللَّه لآتينهم غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد اللَّه بن ربيعة لا تفعل، فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه.
فلما كان الغد قال للنجاشي أيها الملك إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح، ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائناً ما كان، فلما دخلوا عليه، وسألهم، قال له جعفر نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم هو عبد اللَّه ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فأخذ النجاشي عوداً من الأرض، ثم قال: واللَّه ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم واللَّه.
ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي - والشيوم الآمنون بلسان الحبشة - من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لي دبراً من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم - والدبر الجبل بلسان الحبشة.
ثم قال لحاشيته: ردّوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، فواللَّه ما أخذ اللَّه مني الرشوة حين رد علي ملكي، فأخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه.
قالت أم سلمة التي تروي هذه القصة فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
هذه رواية ابن إسحاق، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت بعد بدر، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين لكن الأسئلة والأجوبة التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وجعفر في الوفادة الثانية هي نفس الأسئلة والأجوبة التي ذكرها ابن إسحاق تقريباً، ثم إن تلك الأسئلة يدل فحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي.
أخفقت حيلة المشركين، وفشلت مكيدتهم، وعرفوا أنهم لا يشيعون ضغينتهم إلا في حدود سلطانهم، ونشأت فيهم من أجل ذلك فكرة رهيبة. رأوا أن التفصي عن هذه "الداهية" لا يمكن إلا بكف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن دعوته تماماً، وإلا فبإعدامه، ولكن كيف السبيل إلى ذلك وأبو طالب يحوطه ويحول بينه وبينهم؟ رأوا أن يواجهوا أبا طالب في هذا الصدد.
قريش تهدِّد أبا طالب:
جاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا. وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه، وإنا واللَّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين.
عظم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال له يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق علي وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعُف عن نصرته، فقال: يا عم واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر - حتى يظهره اللَّه أو أهلك فيه - ما تركته، ثم استعبر وبكى، وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب فلما أقبل قال له اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فواللَّه لا أسلمك لشيء أبداً.
وأنشد:
واللَّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وأبشر وقر بذاك منك عيونا
قريش بين يدي أبي طالب مرة أخرى:
ولما رأت قريش أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ماض في عمله عرفت أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأنه مجمع لفراقهم وعداوتهم في ذلك، فذهبوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة وقالوا له يا أبا طالب إن هذا الفتى أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال: واللَّه لبئس ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه. هذا واللَّه ما لا يكونأبداً. فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف واللَّه يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تركه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً، فقال: واللَّه ما أنصفتموني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك.
لا تذكر المصادر التاريخية زمن هاتين الوفادتين لكن يبدو بعد التأمل في القرائن والشواهد أنهما كانتا في أواسط السنة السادسة من النبوة، وأن الفصل بين الوفادتين لم يكن إلا يسيراً.
فكرة الطغاة في إعدام النبي صلى الله عليه وسلم :
وبعد فشل قريش وخيبتهم في الوفادتين عادوا إلى ضراوتهم وتنكيلهم بأشد مما كان قبل ذلك، وخلال هذه الأيام نشأت في طغاتهم فكرة إعدامه صلى الله عليه وسلم بطريق أخرى، وكانت هذه الفكرة وتلك الضراوة هي التي سببت في تقوية الإسلام ببطلين جليلين من أبطال مكة، وهما حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما.
فمن تلك الضراوة أن عتيبة بن أبي لهب أتى يوماً إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أكفر بـ: {النجم إذا هوى} و {بالذي دنا فتدلى} ثم تسلط عليه بالأذى، وشق قميصه، وتفل في وجهه صلى الله عليه وسلم ، إلا أن البزاق لميقع عليه، وحينئذ دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم ، فقد خرج عتيبة مرة في نفر من قريش، حتى نزلوا في مكان من الشام يقال له الزرقاء، فطاف بهم الأسد تلك الليلة، فجعل عتيبة يقول يا ويل أخي هو واللَّه آكلي كما دعا محمد عليّ، قتلني وهو بمكة، وأنا بالشام فعدا عليه الأسد من بين القوم وأخذ برأسه فذبحه.
ومنها ما ذكر أن عقبة بن أبي معيط وطىء على رقبته الشريفة وهو ساجد حتى كادت عيناه تبرزان.
ومما يدل على أن طغاتهم كانوا يريدون قتله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن إسحاق في حديث طويل، قال: قال أبو جهل
يا معشر قريش إن محمداً قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وإني أعاهد اللَّه لأجلس له بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليضع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: واللَّه لا نسلمك لشيء أبداً، فامض لما تريد.
فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجراً كما وصف، ثم جلس لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه، مرعوباً قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا واللَّه ما رأيت مثل هامته، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهم بي أن يأكلني.
قال ابن إسحاق فذكر لي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه.
وبعد ذلك فعل أبو جهل برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما أدى إلى إسلام حمزة رضي اللَّه عنه وسيأتي.
أما طغاة قريش فلم تزل فكرة الإعدام تنضج في قلوبهم، روى ابن إسحاق عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: حضرتهم وقد اجتمعوا في الحجر، فذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينا هم كذلك إذ طلع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها.فوقف ثم قال: أتسمعون يا مشعر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح، فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد، ويقول انصرف يا أبا القاسم، فواللَّه ما كنت جهولاً.
فلما كان الغد اجتمعوا كذلك يذكرون أمره إذ طلع عليهم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به، فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر دونه، وهو يبكي ويقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه؟ ثم انصرفوا عنه، قال ابن عمرو فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً نالوا منه قط. انتهى ملخصاً.
وفي رواية البخاري عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم . قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً. فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه؟.
وفي حديث أسماء فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال: أدرك صاحبك، فخرج من عندنا، وعليه غدائر أربع، فخرج وهو يقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي اللَّه؟ فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا لا نمس شيئاً من غدائره إلا رجع معنا.
إسلام حمزة رضي اللَّه عنه:
خلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاء برق نور للمقهورين طريقهم ألا وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه، أسلم في أواخر السنة السادسة من النبوة، والأغلب أنه أسلم في شهر ذي الحجة.
وسبب إسلامه أن أبا جهل مر برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوماً عند الصفا فآذاه ونال منه، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساكت لا يكلمه، ثم ضربه أبو جهل بحجر في رأسه فشجه حتى نزف منه الدم، ثم انصرف عنه إلى نادي قريش عند الكعبة، فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد اللَّه بن جدعان في مسكن لها على الصفا ترى ذلك، وأقبل حمزة من القنص متوشحاً قوسه، فأخبرته المولاة بما رأت من أبي جهل، فغضب حمزة - وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة - فخرج يسعى. لم يقف لأحد، معداً لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد قام على رأسه وقال له يا مصفر استه، تشتم ابن أخي وأنا على دينه؟ ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة، فثار رجال من بني مخزوم - حي أبي جهل - وثار بنو هاشم - حي حمزة - فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحاً.
وكان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل أبى أن يهان مولاه. ثم شرح اللَّه صدره، فاستمسك بالعروة الوثقى، واعتز به المسلمون أيما اعتزاز.
إسلام عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه:
وخلال هذا الجو الملبد بسحائب الظلم والطغيان أضاء برق آخر أشد بريقاً وإضاءة من الأول، ألا وهو إسلام عمر بن الخطاب، أسلم في ذي الحجة سنة ست من النبوة. بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضي اللَّه عنه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا اللَّه تعالى لإسلامه. فقد أخرج الترمذي عن ابن عمر، وصححه، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام فكان أحبهما إلى اللَّه عمر رضي اللَّه عنه.
وبعد إدارة النظر في جميع الروايات التي رويت في إسلامه يبدو أن نزول الإسلام في قلبه كان تدريجاً، ولكن قبل أن نسوق خلاصتها نرى أن نشير إلى ما كان يتمتع به رضي اللَّه عنه من العواطف والمشاعر.
كان رضي اللَّه عنه معروفاً بحدة الطبع وقوة الشكيمة، وطالما لقي المسلمون منه ألوان الأذى، والظاهر أنه كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة، احترامه للتقاليد التي سنها الآباء والأجداد، واسترساله مع شهوات السكر واللهو التي ألفها، ثم إعجابه بصلابة المسلمين واحتمالهم البلاء في سبيل عقيدتهم، ثم الشكوك التي كانت تساوره - كأي عاقل - في أن ما يدعو إليه الإسلام قد يكون أجل وأزكى من غيره، ولهذا ما إن يثور حتى يخور.
وخلاصة الروايات مع الجمع بينها - في إسلامه رضي اللَّه عنه أنه التجأ ليلة إلى المبيت خارج بيته، فجاء إلى الحرم، ودخل في ستر الكعبة، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي وقد استفتح سورة "الحاقة" فجعل عمر يستمع إلى القرآن ويعجب من تأليفه، قال: فقلت أي في نفسي هذا واللَّه شاعر كما قالت قريش، قال: فقرأ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40-41] قال: قلت: كاهن. قال: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 42-43] إلى آخر السورة. قال فوقع الإسلام في قلبي.
كان هذا أول وقوع نواة الإسلام في قلبه، لكن كانت قشرة النزعات الجاهلية، والعصبية التقليدية، والتعاظم بدين الآباء غالبة على مخ الحقيقة التي كانت يتهمس بها قلبه، فبقي مجداً في عمله ضد الإسلام غير مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشرة.
وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوماً متوشحاً سيفه يريد القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيه نعيم بن عبد اللَّه النحام العدوي، أو رجل من بني زهرة، أو رجل من بني مخزوم فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمداً. قال: كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمداً؟ فقال له عمر ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي كنت عليه، قال أفلا أدلك على العجب يا عمر إن أختك وختنك قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر دامراً حتى أتاهما، وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيه {طه} يقرئهما إياها - وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن - فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت، وسترت فاطمة - أخت عمر - الصحيفة، وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ فقالا ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما. فقال له ختنه يا عمر أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأً شديداً. فجاءت أخته فرفعته عن زوجها فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها - وفي رواية ابن إسحاق أنه ضربها فشجها - فقالت، وهي غضبى يا عمر إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمداً رسول اللَّه.
فلما يئس عمر، ورأى ما بأخته من الدم ندم واستحى، وقال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالت أخته إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاعتسل، فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب، فقرأ {بسم اللَّه الرحمن الرحيم} فقال: أسماء طيبة طاهرة. ثم قرأ {طه} حتى انتهى إلى قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه؟ دلوني على محمد.
فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس (اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام) ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا.
فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم انطلق حتى أتى الدار. فضرب الباب، فقام رجل ينظر من خلل الباب فرآه متوشحاً السيف، فأخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . واستجمع القوم، فقال لهم حمزة ما لكم؟ قالوا: عمر، فقال: وعمر افتحوا له الباب، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه فخرج إلى عمر حتى لقيه فيالحجرة، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، ثم جذبهُ جذبةً فقال: أما أنت منتهياً يا عمر حتى ينزل اللَّه بك من الخزي والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة؟ اللهم هذا عمر بن الخطاب، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأنك رسول اللَّه. وأسلم فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد.
كان عمر رضي اللَّه عنه ذا شكيمة لا يرام، وقد أثار إسلامه ضجة بين المشركين بالذلة، والهوان، وكسا المسلمين عزة وشرفاً وسروراً.
روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال: لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عداوة، قال: قلت أبو جهل، فأتيت حتى ضربت عليه بابه فخرج إلي، وقال: أهلاً وسهلاً، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك أني قد آمنت باللَّه وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به قال: فضرب الباب في وجهي. وقال: قبحك اللَّه، وقبح ما جئت به.
وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي اللَّه عنه قال: كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال يضربونه ويضربهم، فجئت أي حين أسلمت إلى خالي وهو العاصي بن هاشم فأعلمته فدخل البيت. قال: وذهبت إلى رجل من كبراء قريش، لعله أبو جهل، فأعلمته فدخل البيت.
وذكر ابن هشام وكذا ابن الجوزي مختصراً. أنه لما أسلم أتى إلى جميل بن معمر الجمحي - وكان أنقل قريش لحديث - فأخبره أنه أسلم، فنادى جميل بأعلى صوته أن ابن الخطاب قد صبأ فقال عمر - وهو خلفه - كذب، ولكني قد أسلمت، فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وطلح أي أعيا عمر، فقعد، وقاموا على رأسه، وهو يقول افعلوا ما بدا لكم، فأحلف باللَّه أن لو كنا ثلاث مائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.
وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله. روى البخاري عن عبد اللَّه بن عمر قال: بينما هو - أي عمر - في الدار خائفاً إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو، وعليه حلة سبرة وقميص مكفوف بحرير، وهو من بني سهم وهم حلفاؤنا في الجاهلية، فقال له ما لك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني أن أسلمت، قال لا سبيل إليك - بعد أن قالها أمنت - فخرج العاص، فلقي الناس قد سال بهم الوادي، فقال أين تريدون؟ فقالوا: هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ، قال: لا سبيل إليه، فكر الناس وفي لفظ، في رواية ابن إسحاق واللَّه لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه.
هذا بالنسبة إلى المشركين، أما بالنسبة إلى المسلمين فروى مجاهد عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب، لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام - ثم قص عليه قصة إسلامه وقال في آخره - قلت - أي حين أسلمت - يا رسول اللَّه ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: بلى والذي نفسي بيده، إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم، قال: قلت ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن، فأخرجاه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إلي قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الفاروق يومئذ.
وكان ابن مسعود رضي اللَّه عنه يقول ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر.
وعن صهيب بن سنان الرومي رضي اللَّه عنه، قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حِلقاً، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.
وعن عبد اللَّه بن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
ممثل قريش بين يدي الرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :
وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين - حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنهما - أخذت السحائب تتقشع، وأفاق المشركون عن سكرهم في إدلاء العذاب والنكال إلى المسلمين، وحاولوا مساومة مع النبي صلى الله عليه وسلم بإغداق كل ما يمكن أن يكون مطلوباً له؛ ليكفوه عن دعوته. ولم يكن يدري هؤلاء المساكين أن كل ما تطلع عليه الشمس لا يساوي جناح بعوضة أمام دعوته، فخابوا وفشلوا فيما أرادو
قال ابن إسحاق حدثني يزيد، زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيداً، قال يوماً، وهو في نادي قريش، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد؟ فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي اللَّه عنه ورأوا أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يكثرون ويزيدون، فقالوا: بلى، يا أبا الوليد قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد أسمع، قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا كيْ تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل، فقال: {بسم اللَّه الرحمن الرحيم حم * تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 1 - 5] ثم مضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض نحلف باللَّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً واللَّه ما سمعت مثله قط، واللَّه ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فواللَّه ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك واللَّه يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] فقام مذعوراً، فوضع يده على فم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، يقول أنشدك اللَّه والرحم وذلك مخافة أن يقع النذير، وقام إلى القوم فقال ما قال.
أبو طالب يجمع بني هاشم وبني عبد المطلب:
تغيّرت مجرى الظروف وتبدلت الأوضاع والأحوال، ولكن أبا طالب لم يزل يتوجس من المشركين خيفة على ابن أخيه، إنه كان ينظر في الحوادث الماضية - إن المشركين هددوه بالمنازلة، ثم حاولوا مساومة ابن أخيه بعمارة بن الوليد ليقتلوه، إن أبا جهل ذهب إلى ابن أخيه بحجر يرضخه، إن عقبة بن أبي معيط خنق ابن أخيه بردائه وكاد يقتله، إن ابن الخطاب كان قد خرج بالسيف ليقضي على ابن أخيه - كان أبو طالب يتدبر في هذه الحوادث ويشم منها رائحة شر يرجف له فؤاده، وتأكد عنده أن المشركين عازمون على إخفار ذمته، عازمون على قتل ابن أخيه،