بسم الله الرحمن الرحيم: حين نتحدث عن الاستقامة، فإن الذي يطرأ على
أذهاننا صورة فضفاضة لكل معاني الخير والفضيلة، والتي قد تكون متمثلة في بر
الوالدين، أو حسن الخلق، أو المحافظة على الصلاة في وقتها، أو البعد عن
الغيبة والنميمة، وما إلى ذلك من صالحات الأعمال التي جمعها الله عز وجل في
أمره:"فاستقم كما أمرت".
أي أن كل واحد منا مطالب بالاستقامة
في كل قول أو فعل أو حتى نية أي عمل يقوم به، ولعل معظمنا لم يحاول رسم
ملامح واضحة ومحددة لتلك الاستقامة، إذ سوف يتبارد لذهنه منذ الوهلة الأولى
صعوبة ذلك، لاتساع معانيها واختلاف أنواعها، حيث أن الدين كله خير وفضيلة،
وأي يعمل ينبع من منطلق الحرص عليهما؛ يعتبر من الاستقامة!!
ولكن
لعلي أحاول من خلال هذه الأسطر رسم صورة مبسطة جدًا لهذه الاستقامة، قد
تعيننا على تصورها بسهولة من جهة، وتيسر علينا اتباعها من جهة أخرى، وهذه
الصورة أجسدها لكم في هئية (قضبان السكك الحديدة)!!
حيث لا
يتصور عاقل أن بإمكان القطار إذا خرج عن مسار قضبانه السير ولو لأمتار!!
حيث ستكون النتيجة الحتمية، هي الانقلاب الفوري خلال لحظات!!
وهكذا
النفس، لو استطعنا تأصيل صورة قضبان وهمية لها، تتمثل في إلزامها اليومي
بالاغتراف من مصادر غذاء الروح من جهة، ووضع لوحات تحذيرية لها من جهة
أخرى، تحذرها من مخاطر مخالطة بيئات أو مواقف معينة، تعينها على الوقوع في
محذورات بعينها، حيث تعلم النفس مدى ضعف قوتها أمامها؛ فإن ذلك سيكون
بمثابة (قضبان السكك الإيمانية) حيث سيمثل أحدها حثًا على الخير، والآخر
نهيا عن الشر!!
وتعالوا نتخيل معًا برنامجًا يعين النفس على التزود بوقودها الإيماني الذي يقوي من قدراتها على مواجهة فتن الحياة!!
وهذا البرنامج على سبيل المثال سيكون على النحو التالي :
*
الاستيقاظ في الثلث الأخير من الليل لصلاة ركعتين، حبذا لو أخلص العبد
فيهما الدعاء، واستشعر عوزه وفقره وحاجته إلى الله، ففاضت منه دمعات تلصق
قلبه بالله، وتمسح عن نفسه خبث معاصيها ورجسها!!
* يوتر ولا يفوت على نفسه دعاء القنوت بكلماته الشاملة الجامعة (اللهم اهدنا فيمن هديت...إلخ).
* يذهب مرتجلًا لصلاة الفجر (بشر المشائين في الظلم...)
* يصلي ركعتي السنة بعد ترديد الأذان واتباعه بالدعاء المأثور؟
* يدعو بين الأذان والإقامة أو يقرأ القرآن.
* يصطف للصلاة ويحاول استحضار القلب في (صلاة مودع).
*
يتبع الصلاة بالأذكار المشروعة، ثم يواصل أذكار الصباح متاملًا عملية
التحصين بكل دعاء عند ترديده، خاتمًا إياها بكفارة الذنوب التي تحيلها
عدمًا؛ حتى ولو كانت مثل زبد البحر (سبحان الله وبحمده) مائة مرة.
*
يعود لبيته ذاكرًا مستغفرًا يعانق تباشير الصباح مع تغاريد العصافير التي
تزفه حال عودته وكأنها تذكره.. يا ابن آدم (أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد)!!
* يبدأ مشوار عمله الدنيوي بنفس راقية، ليس من لديها أي استعداد للانحطاط من جديد، بل هي منه في حالة نفور شديد!! (ومن ذاق عرف)!!
*
ومع مخالطة شؤون الدنيا حتى الظهيرة، يأتي صوت من بعيد، يقذف بطوق نجاة
جديد!! إنها صلاة الظهيرة، حيث تنظيف ما علق بالنفس من أدران الدنيا
ووسخها!! حتى لا تنفد الطاقة الإيمانية بل تزيد!!
* ثم تحن
النفس لقيلولة تأخذ فيها قسطًا من الراحة البدنية والنفسية، ولو لدقائق أو
سويعات؛ كمحطة تفريغ جسدية، لاستعادة نشاط الروح والبدن مجددًا!!
* ثم تنهض وقت تبادل ملائكة الليل وملائكة النهار لمواقعها، لتشهدها على أدائها صلاتها العصر في جماعة؛ كما يحب ربنا ويرضى!!
* ثم تنفرد بكتاب الله تالية وردها اليومي في أجواء ما بعد الصلاة الوسطى!!
*
ثم تتقرب إلى الله بإعطاء كل ذي حق حقه، من ذوي القربى، أو زيارة الوالدين
(برًا بهما) أو صلة الأرحام طلبًا للعفو والمغفرة من الرب الكريم!!
*
ومع اقتراب غروب الشمس، تسارع إلى الخلوة مجددًا؛ لتلاوة أذكار المساء،
حيث إنها الزاد القلبي والروحي الذي يمدها بصفاء الروح حتى الليل!!
*
وحين يعلن أذان المغرب دخول الليل، تلهج الألسنة قائلة:(اللهم إن هذا
إقبال ليلك وإدبار نهارك وحضور صلواتك وأصوات دعاتك فاغفر لي)!!
*
يصلي المغرب في جماعة، حيث يتبعه لقاء الأحبة من جماعة المسجد خلال حلقة
علم، أو جلسة إيمانية، فينهل من حنان وأشواق الأخوة ما شاء له أن ينهل،
ولكن سرعان ما يتحسر على سرعة مرور الوقت، حين يعلن الآذان دخول وقت صلاة
العشاء!!
* يرجع لبيته، ليهنأ بأحضان عشه الصغير بين أفراد
أسرته، بعدما يقضي لهم حاجتهم، ويتجهز بالنوم لرحلة جديدة، تبدأ حين نزول
رب العزة إلى السماء الدنيا، حيث الثلث الأخير من الليل!!
في
مثل هذا البرنامج، تنغلق على النفس منافذ شرها، وتكون المنكرات على اختلاف
أنواعها أشد مستنكر عليها، بعدما عمرت بذكر الله تعالى فذاقت به حلاوة
الإيمان!!
فلا غيبة ولا نميمة ولا إطلاق بصر، ولا فحش في القول،
ولا عقوق والدين، ولا تفريط في صلة الرحم، ولا سماع أغاني، ولا مخالطة
للفاسقين!!
إن برنامجًا يزخر بالخير، ويشغل النفس عن المواطن التي تثير فيها نوازغ الشر، ليمثل في حياة كل واحدة منا..
(قضبان السكك الإيمانية)!!
الكاتب: أبو مهند القمري
المصدر: موقع صيد الفوائد