روائع البيان في قوله تعالى :
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي }
[سورة البقرة:186]
*- ذكر علماء اللغة و البيان عنها ما يلي:
1- أنها الآية الوحيدة التي خالفت بقية الآيات التي تبدأ بسؤال الناس للنبي الكريم ، حيث كلها تأتي بصيغة ((يسألونك)) مثل
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ ...}[¹]،{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ …}[²]،
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ …}[³]،{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ …}[⁴]،
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ …}[⁵]،{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ …}[⁶]،{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ …}[⁷] ،
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖقُلِ …}[⁸]،{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ…}[⁹] } إلا هذه الآية !
فمن عظمة الله أنه سبق المؤمنين بالسؤال و هم لم يسألوا بعد! و كأنه سؤال افتراضي ،
فإن الله هو الذي وضع السؤال و بادر بالإجابة من قبل أن يُسأل حباً منه بالدعاء و بسرعة الإجابة ! فانظر إلى واسع رحمته!
2- على غرار { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا }.[⁹] كان القياس
أن يقول تعالى ((وإذا سألك عبادي عني فقل ربي قريب يجيب دعوة الداع ))
لكنه تبارك و تعالى تكفل بالإجابة بنفسه وقال تعالى (( فإني قريب أجيب دعوة الداع )) فابتدأ جوابه بأنه قريب للدلالة على عدم حاجته للوسطاء
و الأولياء أولاً ، وللدلالة على حفاوته بالدعاء و بالسائلين ثانيا،
فلم يتحدث بضمير الغائب عن ذاته فلم يقل ((يجيب دعوة الداع)) لأنه يدل على البعد و العلو ، بل نسبها لنفسه للدلالة على دنوه و قربه من السائلين !
3- أنه تعالى لم يعلق الإجابة بالمشيئة كأن يقول ((أجيبه إن أشاء)) ، بل قطع و أكد بأنه يجيب دعوة الداع.
4- أنه قدم جواب الشرط على فعل الشرط ، فلم يقل ((إذا دعان أستجب له)) و ذلك للدلالة على قوة الإجابة و سرعتها.
5- أنه قال تعالى ((أجيب دعوة الداع إذا دعان)) و لم يقل ((أجيب دعوة الداع إن دعان)) وفي هذا معانٍ بلاغية غاية في الدقة،
منها أنه استخدم أداة الشرط (إذا) و لم يستخدم أداة الشرط (إن) ، فما الفرق بينهما؟
السبب أن (إن) تستخدم للأحداث المتباعدة و المحتملة الوقوع و المشكوك فيها و النادرة و المستحيلة
، كقوله تعالى{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}[¹⁰]،و قوله تعالى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا }[¹¹]،
لأن الأصل عدم اقتتال المؤمنين ، و قوله تعالى{ وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي }[¹²] ،
و لم يقل (إذا) استقر مكانه و قد علمنا أن الجبل دك دكاً!
و كقوله تعالى {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً }[¹³]، بينما (إذا) تعني المضمون حصوله أو كثير الوقوع ،
مثل قوله تعالى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ }[¹⁴]، لأن الموت واقع لا محالة !
و قوله تعالى{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ }[¹⁵]، و قوله تعالى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ }[¹⁶]، و قوله تعالى { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ }[¹⁷]،
و لذلك نرى أن كل أحداث يوم القيامة تأتي بـ (إذا) و لم تأت بـ (إن) ،
مثال ذلك قوله تعالى { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا }[¹⁸] ،و قوله تعالى { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ …}[¹⁹] ،
و قوله تعالى { إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَة}[²⁰]،و غيرها من أحدث يوم القيامة حيث لم تأت أيا ًمنها بأداة الشرط (إن) لأنها تحتمل الندرة و عدم الوقوع.
و من روعة هذا البيان هو حينما تأتيان معاً في موضع واحد فيستخدم (إذا) للكثرة
و (إن للندرة)مثل قوله تعالى { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ .. وَإِن كُنتُمْ جُنُباً }[²¹]، فجاء بأ (إذا) للوضوء لأنه كثير الوقوع
و (إن) للجنب لأنه نادر الحصول ، و مثل قوله تعالى { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ }[²²]،
فالإحصان متكرر و الفاحشة من النوادر!
فمن هذا نفهم أنالمعنى من قوله تعالى ((إذا دعانِ)) أنه يشير إلى كثرة الدعاء
و بأنه دعاء متكرر مستمر كثير و ليس نادراً قليلاً! لأن الله يغضب إن لم يدعَ ،
و القلب الذي لا يدعو قلبٌ قاسٍ ،
ألم تر إلى قوله تعالى{ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ }[²³]،
و قوله تعالى { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ }[²⁴].
6- ثم لاحظ أنه قال ((أجيب دعوة الداع)) و لم يقل ((أجيب الداع)) ! لأن الدعوة هي المستجابة
و ليس شخص الداع ،و في هذا إشارة دقيقة جداً إلى مكانة الدعوة بغض النظر عن شخصية الداع!
7- قال ((عبادي)) بالياء و لم يقل ((عبادِ)) فما الفرق؟
((عبادي)) تشير إلى عدد أكبر من ((عباد)) فالياء تعني أن مجموعة العباد أكثر ، أي يجيبهم كلهم على اختلاف ايمانهم و تقواهم ،
كقوله تعالى للدلالة على الكثرة { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ }[²⁵] و المسرفون كثر ، و كقوله تعالى { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } لأن أكثرهم يجادل ،
أما للقلة فيقول تعالى { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }[²⁷] ،و هؤلاء قلة ، و قوله تعالى { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ}[²⁸]، و المتقون قلة !
8- لاحظ أنه قال : ((أجيب دعوة الداع)) و كان القياس أن يقول (أجيب دعوتهم)! و ذلك للدلالة على أنه يجيب
دعوة كل داع و ليس فقط دعوة السائلين ، فوسع دائرة الدعوة و لم يقصرها على السائلين.
9- قال ((فإني قريب)) و لم يقل (أنا قريب) و هذاتوكيد بـ (إن) المشددة للتوكيد ، لأن أنا غير مؤكدة.
10 – أن الآية توسطت آيات الصوم ، وهذا يعني أن الدعاء ديدن الصائم و أن للصائم دعوة لا ترد كما ورد في الأثر ( ما لم تكن بقطيعة رحم).
الدعاء شعار الصائمين ، ومن عظمة الدعاء و منزلته عند الله أن الله أحاطه بآيات الصوم الذي قال عنه في الحديث القدسي (الصوم لي و أنا أجزي به)
لأن الصوم من شعائر الإخلاص لله لأنه شَعيرة غير ظاهرة الأثر على صاحبها ما لم يرائي ، فكذا الدعاء أراده الله أن يكون خالصاً له و هو الذي يجزي به من دون شرك فيه لأحد ،
من دون واسطة نبي أو ولي أو شرطي أو موظف. !
--------