وقفة مع نهاية العام الهجري 1432هـ
إن
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله
إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد:
أخيتي الحبيبة
لقد
وقفت أمام يوميتي لأنزع آخر ورقة بها، آخر يوم من عمر العام المنصرم
1432هـ، وعلى غير عادتي تثاقلت يدي هذه المرة وهي تمتد إليها، وانتابني
إحساس نبه في وجداني شعورًا، ما كنت أعيره اهتمامًا على مدى أكثر من 355
يومًا قد انتهت، لقد أحسست بإشفاق عليها، وقد تراءت لي كأنها تحتضر، وترنو
إلى يدي في فزع وذل، كأنها تطلب مني أن أمهلها لحظات تودّع فيها هذه
الحياة، فعدلت عن نزعها، ورحت أتأمل هذه الورقة الأخيرة، واعترتني رهبة
عندما عرفت أنني في الحقيقية بنزعها قد نزعت حزمة من أيام عمري، لأطوي بها
سجلي الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وبما فيها من خير وشر.
أخيتي الحبيبة
إن
هذه اليومية المحتضرة تشبه عمر أي مخلوق، وإنها تتناقص أيامها مثلما
تتناقص أعمارنا يومًا بعد يوم، وكما يتناقص بتراكمات الحقب والسنين عمرُ
الزمان، وكل المخلوقات في تناقص مطرد حتى تنتهي إلى الزوال (كُلُّ مَنْ
عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ)
[الرحمن:26-27]، إن كل المخلوقات تنتهي أعمارها، وتمضي حيث شاء الله لها،
وتطوى، إلا هذا المخلوق (الإنسان) فإنه الوحيد الذي يبقى متبوعاً بعد رحيله
من هذه الدنيا، وموقوفاً للحساب والجزاء.
عدت من ذهولي، وأخذت استحث
ذاكرتي القاصرة، علّها تسترجع بعض ما رسب وعلق بها من أحداث العام المنصرم،
قبل أن تغمرها دوائر النسيان، ووقفت طويلا أستعرض ذلك الشريط الطويل
(العمر)، يا سبحان الله العظيم، إنه شريط عجيب حقًا، فقد اكتظ اكتظاظًا،
وأفعم إفعامًا، لقد اكتظ بالحوادث المختلفة، والأحداث المتباينة، والأعمال
الحقيرة والجليلة، عنّي وعن غيري ممن لا حصر لهم، من الذين مرّوا أمام عدسة
هذا الشريط بالصوت والصورة. لقد تذكرت هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
وما كان فيها من أحداث، وما أحوجنا - أختي الحبيبة – ونحن نستقبل عامًًا
هجريًا جديدًا أن نعيش بقلوبنا وعقولنا ومشاعرنا وواقعنا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم في هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة والتي حوت على
الكثير من الدروس والعبر منها على سبيل المثال لا الحصر، قيمة الزمن
وأهميته. فلقد جاهد النبي صلى الله عليه وسلم في سبيل الله حق الجهاد، منذ
أنزل الله عليه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ
* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) [المدثر 3:1]، فكان صلى الله عليه وسلم يواصل
الليل مع النهار والسر مع الإعلان، وما كان يخشى في الله لومة لائم، ولا
كان يردعه عن تبليغ الدعوة تهديد قريش ووعيدها. واستجاب له منذ البداية
صدّيق الأمة أبو بكر من الرجال، ومن الصبيان علي بن أبى طالب، ومن النساء
زوجته خديجة بنت خويلد. واستجاب لأبى بكر:- عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد
الله، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم. وتعهد صلى الله عليه
وسلم أصحابه بالتربية والتعليم فكان يجمعهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم
فيعلمهم ما ينز ل عليه من القران الكريم، ويأمرهم بحسن الأخلاق ويحذرهم من
الفسق والشرك والعصيان، وكان صلى الله عليه وسلم قدوة لهم في جميع أقواله
وأفعاله. وكان للوقت قيمة كبرى عندهم، فكانوا يستغلون أوقاتهم في طاعة الله
وفي التزود من علم الرسول صلى الله عليه وسلم وفضله، وكانت العقيدة في
نفوسهم أهم من المال والأهل والولد، وعندما خيّروا بين الوطن والقبيلة ورغد
الحياة وبين خشونة العيش والغربة والتشرد اختاروا صحبة رسول الله والهجرة
في سيل الله. لقد صدق الصحابة رضوان الله عليهم ما عاهدوا الله عليه،
وعندما ابتلاهم الله صبروا وضربوا أروع الأمثلة في الفداء والتضحية، وعندما
نادى منادي الجهاد كانوا يتسابقون على الموت في سبيل الله ولسان حالهم
يقول (.... وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) [طـه:84]. وبعد ثلاثة عشر
عامًا من البذل والتضحية أكرم الله جل وعلا محمدًًا صلى الله عليه وسلم
وأصحابه رضي الله عنهم، بالنصر وجاءهم من جهة المدينة.
13 عامًا كانت محسوبة بأيامها ولياليها وساعاتها...
13عامًا لا يهنأ المسلمون فيها بلذيذ الطعام والشراب، ولا يصرفهم عن ذكر الله حب الدنيا والتثاقل إلى الأرض...
13 عامًا من العمل الجاد، والتخطيط الدقيق، والتربية الرائعة...
فأين نحن اليوم - أخيتي الحبيبة - من سيرة الرسول وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؟
لقد
انسلخ عام كامل من أعمارنا.. انسلخ بثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه، فماذا
قدمنا فيه من أعمال صالحة ندخرها ليوم (.... تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ
سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)
[الحج:2]
إن الجواب أخيتي الحبيبة على هذا السؤال مخجل ومخجل جدًا، ولكن
لابد من الاعتراف بالأمر الواقع، فالواحدة منا -إن كانت موظفة أو طالبة-
تخرج من بيتها في الصباح الباكر، وتمضي سحابة يومها في مدرستها أو جامعتها
أو عملها، وتعود إلى بيتها آخر النهار وقد أضناها التعب فتتناول طعام
الغداء وترتاح قليلا ثم تمضي بقية اليوم وأول الليل في المذاكرة أو قضاء
الأمور المعيشية والمنزلية، ثم تنام، ثم تعود في الصباح وهكذا وهكذا، إنها
والله حياة ليست فيها دقائق مخصصة لقراءة القرآن ولتعلم أحكام ديننا، وليست
فيها دقائق مخصصة لقيام الليل وصلاة السنن والنوافل، وليست فيها دقائق
مخصصة لحضور مجالس الذكر والمحاضرات وليست فيها أيام لصيام الاثنين
والخميس، وليست فيها دقائق لبذل المعروف وقضاء حوائج الناس.
أخيتي الحبيبة
لقد
شغلتنا دنيانا عن طاعة ربنا، ونحن الذين حذرنا جل وعلا منها، قال تعالى
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا
أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى
أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ
يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ) [المنافقون 11:9].
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (إذا
أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك
ومن حياتك لموتك) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم (لا تزول قدما
عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم
أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به) [السلسلة
الصحيحة (946)].
سوف يسألنا مالك يوم الدين يوم الحشر عن أعمارنا،
هل أفنيناها في الأعمال الصالحة والطاعات، أم أفنيناها في اللهو والغفلة
والعبث؟ ويسألنا سبحانه وتعالى عن أجسامنا هل أبليناها بالصيام والقيام وغض
البصر وحفظ السمع واللسان، أم أبليناها في تناول ما لذ وطاب من الطعام
والشراب؟ والسائل جلّ وعلا يعرف خفايا أمورنا، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا
في السماء. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ
إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا
أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا
كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة:7]
أخيتي الحبيبة
إن
الكثير من أبناء المسلمين في معظم البلاد العربية والإسلامية يحتفلون بذكرى
الهجرة في كل سنة، ولكن للأسف الشديد القليل جداً منهم الذي يعرف الحكمة
التي انطوت عليها حادثة الهجرة، فالله عز وجل في كتابه العزيز قد أنحى
باللائمة على جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في مكة
يصلون ويصومون فقط، ولا يستطيعون أن يفعلوا أكثر من ذلك من مظاهر الدين
لأنهم كانوا تحت سلطة قريش ولا قوة لهم عليها، ثم هم لم يهاجروا إلى قلعة
الإسلام ليكونوا من جنودها ويظهروا شعائر دينهم بكل راحة، فأنزل الله فيهم
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي
الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا
فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)
[النساء:97]. فالحكمة أخيتي الحبيبة من الهجرة هي أن الإسلام لا يكتفي من
أهله بالصلاة والصوم فقط، بل يريد منهم مع ذلك أن يطبقوا كل أوامر الله عز
وجل وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم الظاهرة والباطنة في أنفسهم وفي كل
أمور حياتهم اليومية كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة: 208]. والسلم هو الإسلام، وقال
تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162].
أخيتي الحبيبة
إن الهجرة
باقية لم تنتهِ بعد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى
تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه أبوداود
والنسائي، [صحيح الإرواء ( 1208 )]
وعن عبد الله بن عمير عن أبيه عن
جده، أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أفضل الهجرة؟ قال: (من هجر
ما حرم الله) [مشكاة المصابيح ( 3833 )]
وقال صلى الله عليه وسلم في
حجه الوداع: (ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم.
والمسلم؟ من سلم الناس من لسانه ويده. والمجاهد؟ من جاهد نفسه في طاعة
الله. والمهاجر؟ من هجر الخطايا والذنوب) [السلسلة الصحيحة (549)] فلا بد
من الهجرة من معصية الزوج إلى طاعته والتودد إليه..
ولا بد من الهجرة من عقوق الوالدين إلى برهما والإحسان إليهما..
ولا بد من الهجرة من النوم عن الصلوات إلى الصلاة على وقتها بخضوع وإقبال..
ولابد من الهجرة من قراءة المجلات والجرائد التافهة إلى قراءة القرآن الكريم وتدبر آياته..
ولابد من الهجرة من سماع الأغاني والتلذذ بالغيبة إلى سماع القرآن والمحاضرات المفيدة..
ولابد
من الهجرة من النظر المحرم في المجلات والأسواق والقنوات إلى النظر في
كتاب الله وسنه رسوله وسيرته وعظمة الله في مخلوقاته.. ولا بد من الهجرة من
الكذب والغيبة والكلام البذيء إلى ذكر الله عز وجل ودعائه والتلذذ
بمناجاته..
ولا بد من الهجرة من الجلسات الفارغة والتافهة إلى مجالس الذكر وحضور المحاضرات النافعة..
ولا
بد من الهجرة من أصدقاء السوء سواءً كانوا من الأقارب أومن زملاء الدراسة
والعمل، الذين يصدون الإنسان عن سلوك طريق الالتزام والهداية، إلى الأخوات
الصالحات اللاتي يدلون على الخير ويعينون المسلمة عليه..
وباختصار لا بد من الهجرة من كل ما يغضب الله، إلى كل ما يرضي الله، ومن كل معصية يبغضها الله إلى كل طاعة يحبها الله..
أخيتي الحبيبة
إن
بداية العام الهجري الجديد فرصة لكل واحدة منّا لكي تفتح صفحة جديدة مع
الله عز وجل، صفحة بيضاء نقية، تعاهد الله فيها أن تسلك طريق الالتزام
والهداية، تعاهد الله فيها أن يكون كتاب الله عز وجل جليسها، وذكر الله عز
وجل أنيسها، وقيام الليل وصيام النهار سبيلها، والأخت الصالحة في الله
نديمها. صفحة تعاهد الله فيها أن تترك كل معصية تبغضه، وكل أغنية ماجنة من
القرآن تحبسها، وكل نظرة محرمة للقلب تقتله، وكل جليسة سوء من الله تبعدها.
بهذا وهذا وحده نحيي ذكرى الهجرة الشريفة، ونحقق مقاصدها، وهذا هو الفلاح
الذي يدعونا إليه المؤذن خمس مرات في كل يوم عندما يدعونا إلى الوقوف بين
يدي الله عز وجل.
اللهم اجعل عامنا القادم أفضل من عامنا الماضي
بتوفيقنا لطاعتك وترك معصيتك يا رب العالمين، اللهم اجعل عامنا القادم فرصة
لقبولنا في قافلة العائدات إليك والمنيبات إليك يا ذا الجلال والإكرام،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.