©... الصلاة و السلام على أشرف المرسليـن ...©
... الحمد لله وحده نحمده و نشكره و نستعينه و نستغفره و نعود بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا ...
... من يهده الله فلا مظل له و من يظلل فلن تجد له ولياً مرشدا ...
... و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمداً عبده و رسوله صلى الله عليه و سلم ...
... و على آله و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ...
... ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الخبير ...
... ربنا لا فهم لنا إلا ما فهمتنا إنك أنت الجواد الكريم ...
... ربي اشرح لي صدري و يسر لي أمري و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ...
... أما بعد ...
حياكم الله جميعا إخوتي و أخواتي الكرام .. أحييكم من منتدى : الحديث و السيرة النبوية ...
أقدم اليوم بين يدي أحبائي في هذا المنتدى الطيب موضوعا مميزا تحت عنوان :
ღღღღ
1- دلالة السير:
- السير في اللغة (الذهاب؛ كالمسير، والمسيرة، والسيرورة، والاستيار)[1].
والفعل: سار، ومضارعه يسير؛ لأن أصله سَيَرَ.
وهو يستعمل لازما ومتعديا، قال العلامة ابن منظور: (وسَارَ البعيرُ، وسِرْتُهُ أنا، وسارت الدابة، وسارها صاحبُها: يتعدى ولا يتعدى)[2].
- ومعنى المتعدي: الركوب، فإذا أراد بها صاحبها المرعى قال: أَسَرْتُها إلى الكلأِ، ويقال أيضا: أَسَارَ القوم أهلهم ومواشيهم إلى الكلأِ؛ وهو أن يرسلوا فيها الرعيان، ويقيموا هم.
ويستعمل المتعدي أيضا؛ ويراد به الإبلاغ، قال الشاعر [3] :
فَاذْكُرَنْ مَوْضِعاً إِذَا الْتَقَتِ الْخَيْ لُ وَقَدْ سَارَتِ الرِّجَالَ الرِّجَالاَ
قال ابن منظور: (أي سارت الخيلُ الرجالَ إلى الرجالِ، وقد يجوز أن يكون أراد: وسارت إلى الرجال بالرجال؛ فحذف حرف الجر ونصب، والأول أقوى).
وأشهر شاهد شعري يمثل به للمتعدي في هذه المادة قول خالد بن زهير الهذلي :
فَلاَ تَجْزَعَنْ مِن سِيرَةٍ أَنتَ سِرْتَهَا فَأَوَّلُ رَاضٍ سِيرةً مَنْ يَسِيرُهَا [4]
والمعنى: أنت جعلتها سائرة في الناس.
- ومن المعاني التي يدل عليها تعلق هذه المادة بحروف الجر :
سايره: سار معه.
وتساير عنه الشيء: سار وزال، يقال: فلان لا تُسايَرُ خَيْلاَهُ؛ إذا كان كذابا.
ويقال: سِرْ عنك؛ أي تغافل واحتمل.
- ومن أسماء المفعول :
دابة مُسَيَّرة؛ إذا كان الرجل راكبها أو سائرًا لها، والماشية مُسَارَة، والقوم مُسَيَّرون، وطريق مَسُورٌ فيه، ورجل مَسُورٌ به.
- وأما دلالات بعض مصادر اللازم الآنفة :
فالْمَسيرة تستعمل مصدرًا بمعنى السير؛ كالمعيشة، والْمَعْجِزة –بفتح الميم وكسر المعجمة- ويستعمل أيضًا بمعنى المسافة التي يسار فيها من الأرض، كالمنزلة والمتهَمة –بفتح الهاء-، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ)[5].
- ومن الأوصاف المشتقة من هذا الأصل: سُيَرَة –كهُمزة-، ومعناه الكثير السير.
هذا خلاصة ما اشتملت عليه معاجمُ اللغة من وجوه استعمال هذه المادة في لسان العرب، وقد لخص ابن فارس ذلك بقوله: (السين والياء والراء: أصل يدل على مُضِيٍّ وجَريان)[6].
2 - دلالة السيرة :
قال العلامة ابن منظور –ملخصًا ما سبق، ومبينًا وجهَ انتقال (السَّيْرِ) من المصدرية إلى الاسمية-: (والاسم من كل ذلك السيرة)[7].
وهذا النقل –بالنظر إلى الغرض من هذه المبحث– لباب الصيغ الآنفة جميعًا، وقد ذكر أهل اللغة لاسم (السيرة) أربع دلالات؛ فقالوا: (السيرة: الضرب من السير، والسيرة: السنة، والسيرة: الطريقة، والسيرة: الهيئة)[8].
- فأما (الضرب من السير) : فأصل الضرب الصِّيغة؛ يقال : (هذا من ضرب فلان؛ أي من صيغته؛ لأنه إذا صاغ شيئا فقد ضربه)[9].
ويطلق الضرب ويراد به الصفة، والصنف من الأشياء؛ يقال: هذا من ضرب فلان؛ أي من نحوه وصنفه، قال الشاعر[10]:
أَرَاكَ مِنَ الضَّرْبِ الَّذِي يَجْمَعُ الْهَوَى وَحَوْلَكَ نِسْوَانٌ لَهُنَّ ضُرُوبُ
- و الضرب أيضا : المثال، وقد بين ابن منظور أنه المراد من مثل قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُم مَثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ} [11]؛ قال: (أيْ وصف وبين، وقولهم: ضرب له المثل بكذا؛ إنما معناه: بين له ضربًا من الأمثال؛ أي صنفًا منها)[12].
فالضرب من السير –على هذا-: صيغة منه، وصفة منه، ومثال منه.
- أما (السُّنَّةُ) :
فمن الفعل: سَنَّ، وأصله (جريان الشيء واطراده في سهولة)[13]، ومرد استعماله في العربية إلى قولهم: سننت الماء على وجهي سَنًّا؛ إذا أرسلته إرسالا.
وتطلق ويراد بها الصورة؛ قال ذو الرمة[14]:
تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلاَ نَدَبُ
قال ابن فارس : (ومما اشتق منه –يعني الأصل "سَنَّ"– السُّنَّة؛ وهي السيرة)[15]، وقال ابن منظور: (والسنة: السيرة حسنةً كانت أو قبيحة)[16]، واستشهد ببيت الهذلي الآنف:
فَلاَ تَجْزَعَنْ مِن سِيرَةٍ أَنتَ سِرْتَهَا فَأَوَّلُ رَاضٍ سِيرةً مَنْ يَسِيرُهَا
واستشهد أيضا بقول النبي صلى الله عليه وسلم –فيما رواه المنذر بن جرير عن أبيه رضي الله عنهما-: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرُها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)[17].
قال الراغب في مفرداته : [18] (وسنة الله تعالى قد تقال لطريقة حكمته، وطريقة طاعته نحو: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}[19]، و{لَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}[20].
فظهر بهذا أن السنة المضافة إلى الله تعالى أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا حسنة مستقيمة محمودة.
والسنة أيضا : (الوجه لصَقالته ومَلاسته)[21]، وقيل: (حُرُّ الوجه)، و(ما أقبل عليك منه).
والسنة أيضا (الطريق القويم)؛ قال في اللسان: [22] (وسن الله سنة؛ أي بَيَّنَ طريقًا قويمًا؛ قال الله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ}[23].
فظهر أن السنة: الصورة، والسيرة، والطريقة، والوجه، والطريق القويم.
- وأما (الطريقة) : فمن (طَرَقَ)، وقد رده ابن فارس إلى أربعة أصول [24]: الإتيان مساء، والضرب، وجنس من استرخاء الشيء، وخَصف شيء على شيء.
ورده الراغب إلى الضرب فقال: (الطريق: السبيل الذي يطرق بالأرجل؛ أي يضرب)[25]، واستشهد بقوله تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى}[26]، قال: (والطرق في الأصل كالضرب؛ إلا أنه أخص؛ لأنه ضرب بوقع كضرب الحديد بالمطرقة، ويتوسع فيه توسعهم في الضرب)[27].
وقال الجوهري في الصحاح: (الطريقة: أطول ما يكون من النخل بلغة اليمامة، والجمع طريق)[28]، واستشهد بقول الأعشى:[29]
طَرِيقٌ وَجَبَّارٌ رِوَاءٌ أُصُولُهُ عَلَيْهِ أَبَابِيلٌ مِنَ الطَّيْرِ تَنْعَبُ
وقال الفيروزآبادي: (الطريقة: النخلة الطويلة)[30].
فالطريقة إذن: أطول النخل.
والنخلة الطريقة: الملساء الطويلة.
وطريقة القوم –للجمع-: أماثلهم وخيارهم؛ يقال: هذا رجل طريقةُ قومه؛ (أي شريفهم وأمثلهم)[31]، وهؤلاء طريقة قومهم للواحد والجمع؛ (أي الذي ينبغي أن يجعله قومه قدوة فيهم، ويسلكوا طريقته) [32]، ومنه قوله تعالى: {وَيَذْهَبُوا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى}[33].
قال الإمام الشوكاني : (بسنتكم، والمثلى: نعت؛ تقول العرب: فلان على الطريقة المثلى؛ يعنون على الهدي المستقيم، والمثلى: تأنيث الأمثل، والمعنى: أنهما إن يغلبا بسحرهما مال إليهما السادة والأشراف منكم، أو يذهبا بمذهبكم الذي هو أمثل المذاهب)[34].
والطريقة : الخط في الشيء، ومنه القول للخط الممتد على متن الحمار الوحشي: طريقة[35].
وطريقة الرجل : مذهبه؛ يقال: ما زال الرجل على طريقة واحدة.
والطريقة أيضًا : الحال؛ يقال: هو على طريقة حسنة، وطريقة سيئة؛ قال لبيد:[36]
فَإِن تُسْهِلُوا فَالسَّهْلُ حَظِّي وَطُرْقَتِي وَإِن تُحْزِنُوا أَرْكَبْ بِهِمْ كُلَّ مَرْكَبِ
والطريقة: السيرة[37].
فهذه ثلاث دلالات للفظ الطريقة؛ تتقاسمها ثلاثة مراجع: الامتداد، والرفعة، والحال، لكن المهيمن عليها الأول الامتداد لكثرته، وتوقف المعنيين الآخرين عليه؛ إذ لا يتصور التخلق بحال دون اعتياده، وطول طرقه.
كما لا تتصور الرفعة في شأن ما لم تطل استقامة صاحبه عليه.
- وأما (الهيئة) فأصله :
هَاءَ يَهاءُ هَِيئَةً –بكسر الهاء وفتحها-؛ أي أخذ للأمر هيئة؛ كتهيأ له.
والْهَيِّءُ –بفتح الهاء-: الحسن الهيئة من كل شيء.
والهَيْئةُ: حال الشيء وكيفيته.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلاَّ الْحُدُودَ)[38]، قال ابن منظور: (هم الذين لا يعرفون بالشر؛ فيزل أحدهم الزلة؛ يريد به ذوي الهيئات الحسنة الذين يلزمون هيئة واحدة، وسمتًا واحدًا؛ لا تختلف حالاتهم بالتنقل من هيئة إلى هيئة)[39]، وبين معناه الإمام ابن القيم في بدائعه[40].
والهيئة: الشارة.
فهذان معنيان للفظ الهيئة: حال الشيء وكيفيته، وشارة الشيء.
- خاتـمة :
هذا مجمل ما يقتضيه بيان معنى (مصطلح السيرة النبوية) من التمهيد بذكر دلالته اللغوية، ومحيطه الدلالي، وهي سبيل أهل كل علم وديدنهم حين يسألون عن دلالة مفردة من المفردات.
ولا يخفى ما بين علم الاصطلاح وعلم اللغة من وثيق الصلة، وأن اللغة قاعدة الاصطلاح، ومادته الأولى الرابطة بين شطري الدلالة (اللفظ والمعنى).
وقد ظهر من خلال هذا العرض ما يلي :
1 – السين والياء والراء : أصل يدل على مُضِيٍّ وجَريان.
2 – التاء اللاحقة بلفظ السيرة نقلته من المصدرية إلى الاسمية.
3 – هذا النقل قاعدة المراد من استعمال هذا الإطلاق في الاصطلاح، ومن ذلك :
أ – صيغة من السير، وصفة منه، وصنف منه، ومثال منه.
ب – سيرة السائر، وسنته، وطريقته، وهيئته، وصورة سيره، وطبيعته، ووجهه.
جـ – تعلق اسم السيرة بإحدى هذه الدلالات على وجه أخص منه في سائرها؛ فقول أهل اللغة: (طريقة القوم: أماثلهم وخيارهم) فيه معنى (الإمامة في الخير).
وفي ردهم معاني (الطريقة) إلى (الامتداد) و(الرفعة) معنى (الريادة)، و(التقدير)، و(التقديم).
د – هذه الدلالات هي اللآلئ الناظمة لعقد الصلة بين معنى السيرة في اللغة ومعناها في الاصطلاح.
ولا يخفى استغراق سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لكل هذه المعاني، واشتمالها على جميع فروع دلالاتها على نحو أتم وأليق بجلال قدره الشريف، وجمال سمته المنيف، وذلك لازم اجتبائه واصطفائه، وداعي إجلاله والاحتفاء به تزلفًا إلى الله جل وعلا، وتعلقًا برضاه، والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] لسان العرب: سير.
[2] نفسه.
[3] أورده صاحب المعجم المفصل في شواهد العربية (6 / 45) غير منسوب.
[4] أشعار الهذليين 1 / 157، وقد يكون هذا البيت لأبي ذؤيب الهذلي - خال خالد بن زهير - كما بين ذلك الأستاذ عبد السلام هارون في تحقيقه لمقاييس ابن فارس 3 / 121
[5] طرف من حديث أخرجه البخاري في أول كتاب التيمم من صحيحه (1 / 435 – 436 فتح) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.. وتمامه (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم؛ ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة).
[6] مقاييس اللغة 3 / 120.
[7] لسان العرب 4 / 389.
[8] لسان العرب، والقاموس المحيط، ومقاييس اللغة (سير).
[9] مقاييس اللغة (ضرب).
[10] لسان العرب وتاج العروس (ضرب) غير منسوب.
[11] الروم: 28.
[12] لسان العرب 1 / 549.
[13] مقاييس اللغة: سَنّ.
[14] ديوان ذي الرمة (1 / 29 بشرح الباهلي).
[15] مقاييس اللغة: سَنَّ.
[16] لسان العرب: سَنَّ.
[17] أخرجه مسلم في كتاب الزكاة من صحيحه؛ باب الحث على الصدقة وأنواعها، وأنها حجاب من النار (7 / 104 بشرح النووي).
[18] مفردات ألفاظ القرآن: ص 429.
[19] الفتح: 23.
[20] فاطر: 43.
[21] اللسان: سَنَّ.
[22] نفسه 13 / 255.
[23] الأحزاب: 38.
[24] مقاييس اللغة: طَرَقَ.
[25] المفردات: ص 518.
[26] طه: 77.
[27] المفردات: ص 518.
[28] الصحاح: طرق.
[29] ديوان الأعشى: ص 251.
[30] القاموس المحيط: طرق.
[31] القاموس المحيط: طرق.
[32] اللسان: طرق.
[33] طه: 63.
[34] فتح القدير 3 / 529.
[35] اللسان: طرق.
[36] ديوان لبيد: ص 20.
[37] اللسان: طرق.
[38] أخرجه أبو داود في كتاب الحدود من سننه (رقم 3803) عن عائشة رضي الله عنها، وهو في صحيح سنن أبي داود للألباني 3 / 827، رقم 3679.
[39] اللسان 1 / 188.
[40] قال رحمه الله في بدائع الفوائد - (3 / 640) -:
(والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس من الجاه والشرف والسؤدد؛ فإن الله تعالى خصهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان منهم مستورا مشهورا بالخير حتى كبا به جواده، ونبا عصب صبره، وأديل عليه شيطانه؛ فلا يسارع إلى تأنيبه وعقوبته؛ بل تقال عثرته ما لم يكن حدا من حدود الله؛ فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع).
تقبلوا تحياتي العطرة و مروري عليكم
و الشكر و التقدير لكل روادنا الكرام
موفقين لما يحبه و يرضاه