تروي لنا كتب السير أنّ مسلمة جلست في سوق بني قينقاع في المدينة عند
صائغ يهودي فراودها عن كشف وجهها فأبت عليه، فعقد طرف ثوبها إلى ظهرها
على حين غفلة منها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت. فوثب
رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، وشدت اليهود على المسلم
فقتلوه.
هذا مشهد من المشاهد ترويه لنا كتب السيرة، والمشهد التالي له مباشرة
- في كتب السيرة - هو حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني قينقاع
وإصراره على ذبحهم لولا وقاحة بن سلول في شفاعته لهم. وسقط من كل
الروايات ما بين المشهدين - ما حدث في السوق والحصار - من الأحداث،
كأن الحدثين متلاصقين.
فلم تروِ لنا كتب السير أنّ أحدا تكلم بأنّ مَن فعل الفعلة قُتل
فكفّوا أيديكم يكفي؛ ولم تروي لنا كتب السير أنّ أحدا تكلم بأنّ الأمر
لم يتجاوز كشف جزء من العورة لفترة وجيزة، ولم تروي لنا كتب السير أنّ
أحدا تكلم بأنّ لبني قينقاع إخوة في الدين والملة في ذات المدينة، هم
بنو قريظة وبنو النضير وورائهم في خيبر عدد وعتاد ولهم حلفاء من
غطفان، وغطفان يومها غطفان. بل لم يتكلم أحد مطلقا .. لم تروي كتب
السيرة سوى فعل، وهو حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم حتى
أجلاهم.
وتروي لنا كتب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب في عشرة من
أصحابه لبني النضير يطلب منهم وفاء ما عاهدوه عليه، فغدروا، وهمُّوا
بقتله صلى الله عليه وسلم وحين علم بغدرهم وهو جالس تحت جدار بيت من
بيوتهم قام ولم يتكلم، وأعد الجيش ولم يتمهل، وحاصرهم حتى خربت بيوتهم
بأيديهم وأيدي المؤمنين، وخرجوا منها أذلاء صاغرين.
وتروي لنا كتب السير أنّ الأخبار أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم
بأنّ خالد بن سفيان الهُذلي يُجَمِّع العرب في بطن عُرْنَة عند سفح
عرفة على بعد خمسمائة كيلو متر من المدينة، فأرسل له رجلا ( عبد الله
بن أُنيس ) من المدينة يسعى على قدميه فأخمد الفتنة. ولم نسمع كثيرا
ولا قليلا من الكلام.
وغدرت قريش بعهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم وراحت وجاءت وقالت
وأكثرت، وما كان من الحبيب صلى الله عليه وسلم إلّا أن رد عليهم بفعل
لا بقول . . . استنفر أصحابه وجمََََّع جيشه وفتح مكة.
وغدرت قريظة فذبحت، وقتلت غسان رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
فتحرك جيش مؤتة، وبنو المصطلق همّوا بالتَّجَهُز فوجدوا الخيل صباحا
تشرب من مائهم.
هكذا ... نعم هكذا.
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم كثيرا.
ولم يكن الباعث على هذا ( التصرف الفعلي ) من الرسول صلى الله عليه
وسلم هو كثرة العدد ووفرة العتاد، فقد كانت الحال حال . . . هو منهج
الدعوة من يومها الأول أنظر كيف بدأت، {يَا أَيُّهَا
الْمُدَّثِّرُ(1)
قُمْ فَأَنذِرْ(2)} [المدثر:1-2]،
{إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً}
[المزمل:7].
ولم تكن فقط عملية وجادة مع المخالف وإنّما أيضا في تربية الجماعة
المؤمنة، كانت الدروس كلّها عملية.
يذبح سبعون من الصحابة يوم أحد منهم الحمزة بن عبد المطلب ليتعلم
القوم درسا من جملة واحدة {قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ
هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل
عمران:165].
ويستمر حادث الإفك شهرا ليتعلم القوم درسا عمليا
{لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً}
[النور :12]. . . {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ
بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ
عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}
[النور:15].
ويحاصر المخلفين عن غزوة تبوك خمسين يوما حتى ضاقت عليهم الأرض بما
رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، ليتلقوا درسا عمليا - هم ومن يشاهدونهم ومن
يسمع بهم - كي لا يتخلفوا ثانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
يرغبوا بأنفسهم عن نفسه.
هذا حاله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع عدوه ومع أتباعه . . . هذا
هو المنهج الربّاني الذي تحرك به النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنّ من أوضح الأمور لمن يتدبر نشأة الجماعة المؤمنة على يد الرسول
صلى الله عليه وسلم وكيف نمت وتطورت وكيف عالجت مشاكلها الداخلية -
بين أفرادها - والخارجية مع أعدائها، أنّ نهج الشرع كان عمليا، ولم
يكن يوما ما نظريا.
لم يتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأجندة عمل لمن يخالفونه يشرح
فيها وجهات نظره، ورؤيته للمستقبل، وإنّما كان هادئا كثير الصمت يعمل
ولا يتكلم.
ومن الواضح جدا - أيضا - أنّ الأفراد ميزتهم المواقف ولم يتميزوا
بالمعرفة الذهنية، ولا بأصوات العامة لهم.
واليوم : العقيدة
دروس علمية . . نظرية، لا تكاد تعرف ( الأخ ) إلّا من كلامه، قليل من
تتعرف عليهم من وجوههم وفعالهم.
واليوم شعارات
نرفعها وننام تحتها مكتفين بمجرد الانتساب للعمل الإسلامي.
واليوم شعارات
نرفعها ونتعصب لها.
واليوم قليل هم
المهتمون بأمر أمتهم، وكثير من هذا القليل يشعر أنّه أدّى ما عليه
تجاه أمته بمجرد معرفته بما يحدث هنا وهناك.
واليوم نُدعى لتقديم
مشروع فكري نواجه به دساتير القوم العلمانية. نَنْجَر من حيث لا نشعر
إلى مهاترات كلامية، نضاهي أوراقا بأوراق، وما هكذا بدأت ولا هكذا
ستعود.
واليوم لا بد أن نواجه بفعال لا بأقوال، لا بد أن ينظر كل منا إلى
رصيده العملي في خدمة الدين، ماذا قدم لهذا الدين من الأعمال؟
خاص لطريق الإسلام