[b]
ان الحمد لله ، نحمده و نستعينه ، و نستغفره ، و نعوذ بالله
من شرور انفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له
و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا
عبده و رسوله صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من تبعهم
بإحسان الى يوم الديـــن و سلم تسليما كثيرا ، أما بعد ...
مع الآية الكريمة
"ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (32) جنات عدن يدخلونها يحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (34) " [سورة فاطـر]
نجد في كتب التفسير اختلافاً غير قليل في فهم هذه الآيات الكريمة وأكثر ما دار حوله الخلاف مفهوم الكلمات التالية: " ثمّ أورثنا الكتاب "، " الذين اصطفينا من عبادنا "، والضمير في كلمة " منهم "، وفي كلمة " يدخلونها "، وكذلك في مفهوم الأصناف الثلاثة: " ظالم لنفسه "، " مقتصد "، " سابق بالخيرات ". وفي الحقيقة فإن هذه الكلمات هي مفاتيح فهم هذه الآيات.
يذكر ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات بعض الأحاديث التي فيها ضعف أو غرابة، ومع ذلك فهو يقول: " يشدُّ بعضها بعضاً ". ويورد الأحاديث أو الأقوال الموقوفة على بعض الصحابة للآراء المختلفة. فتأخذ نماذج من ذلك:
فعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أمتي ثلاثة أثلاث، فثلث يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وثلث يمحَّصون ويكشفون ثم تأتي الملائكة فيقولون وجدناهم يقولون لا إله إلا الله وحده. ويقول الله - تعالى -: صدقوا، لا إله إلا أنا! أدخلوهم الجنّة بقولهم لا إله إلا الله وحده واحملوا خطاياهم على أهل النار... ". وقال عنه غريب جداً. ويروي هذا الحديث الطبريُّ في تفسيره أثراً عن ابن مسعود. ويذكر آثاراً موقوفة على ابن عباس - رضي الله عنهما - أن هذه الأصناف الثلاثة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - كلهم مغفور لهم. ويذكر أيضاً عن ابن عباس أثراً آخر يقول فيه: " فمنهم ظالم لنفسه هو كافر ". ويروي الرأي نفسه عن عكرمة وغيره. وعن مجاهد أنه قال: " فمنهم ظالـم لنفسـه هم أهل المشأمة. وعن ابن عباس وقتادة والحسن: " وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام المذكورة في أول سورة الواقعة وآخرها. وعند الإمام أحمد عن الوليد بن العيزار أنه سمع رجلاً من ثقيف يحدّث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في هذه الآية: " هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة في الجنّة "! وقال عنه حديث غريب. وعند الطبري هذا أثر موقوف على كعب ومحمد بن الحنفية وأبي إسحق السبيعي.
ويورد الطبري الأثر الموقوف على ابن عباس بأن الأصناف الثلاثة هم من أمة محمد وهم مغفور لهم. ويورد في قول آخر: أن الظالم لنفسه هو المنافق وهو في النار، والصنفان الآخران في الجنة. ويروي ذلك أيضاً عن قتادة والحسن وغيرهما. وروى أن قتادة قال: " كان الناس ثلاثة منازل في الدنيا، وثلاثة منازل عند الموت، وثلاثة منازل في الآخرة. أما في الدنيا: فمؤمن ومنافق ومشرك. وأما عند الموت فكما في آخر سورة الواقعة، وأما في الآخرة فكانوا أزواجاً ثلاثة كما في أول سورة الواقعة.
وعند ابن عطية لا يكاد يخرج عن هذه المعاني إلا أنه قال عن " الذين اصطفينا " يريد بهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ثم يقول: " وكأنّ اللفظ يحتمل أن يُرادَ به جميع المؤمنين من كل أمّة. " وهذا المعنى هو الذي سنوضحه في دراستنـا هذه. ويقول: " إلا أن توريث الكتاب لم يكن إلا لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكأن الله ورّثهـا الكتاب الذي كان في الأمم قبلهم. "
ولا تخرج كتب التفسير الأخرى عن ذلك. ولكنَّ هذه الصورة المعروضة في هذه الأراء تضطرب مع شدّة الاختلاف وضعف الأحاديث وتناقض الأثار التي لم ترفع إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مما يوحي أن معظم هذه الآراء ووجهات نظر ذاتيّة لا تحمل الحجة القاطعة الجامعة.
من أجل ذلك نحبّ أن نقف مع هذه الآيات الكريمة لنقدّم تصوّراً مبنيّاً على ترابط الآيات مع ما سبقها وما تلاها ومع نهج السورة كلها، ولنبيّن تناسقها مع نهج القرآن الكريم والآيات في سور أخرى، وقواعد الإيمان والتوحيد.
نعود أولاً إلى سورة فاطر لندرس نهجها وما تطرقه من موضوعات مترابطة، كانت هذه الآيات موضوعاً من موضوعاتها متناسقة معها.
فالسورة تتحدث أولاً عن فضل الله على الناس جميعاً، مما يوفّر لهم السبيل ليؤمنوا ولا يكذّبوا الرسل ولا يتبعوا الشيطان. وتُبْرِزُ السورة كذلك بعض آيات الله في الكون مبثوثة للناس كافّة، ويتكرر الخطاب إلى" الناس " في أكثر من موقع، نأخذ مثلاً منها:
" يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيُّ الحميد. إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز. " [فاطر: 15ـ17]
ثمّ تعرض السورة امتداد رسالة الله إلى عباده على مرّ القرون، ديناً واحداً، تختم رسالاته بالنبيّ الخاتم محمد - صلى الله عليه وسلم -:
" إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أُمّة إلا خلا فيها نذير. فإن يكذّبوك فقد كذّب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهـم بالبيّنات وبالزُّبُرِ وبالكتاب المنير. " [فاطر: 24ـ25]
ويتأكد هذا المعنى في آيات كثيرة وسور أخرى من كتاب الله، حتى يكون قاعدة رئيسة في التفكير الإيماني والتصور. وتتأكد حقيقة أخرى في كتاب الله هي أن جميع الرسل مسلمون دينهم هو الدين الواحد، هو الإسلام الذي لا يقبل الله سواه، وأن المسلمين أمة واحدة على مدى الدهر، تعبد رباً واحداً، وتدين بدين واحد، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتسارع في الخيرات، وأن رحمة الله وفضله يَعُمّان المؤمنين جميعهم، من الأنبياء والمرسلين، ومن اتبعهم وصدّقهم. ومن يدرك من أتباع أيّ نبيًّ ورسول نييّاً ورسولاً آخر فعليهم أن يتبعوه ليصدق إيمانهم. وتأتي الآيات الكريمة في كتاب الله لتؤكد هذه الحقيقة:
" إنّ هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربكم فاعبدون. " [الأنبياء: 92]
" وإنّ هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربكم فاتقون. " [المؤمنون: 52]
ثم تعرض سورة فاطر خصائص الصادقـين المتقين من هذه الأمة الممتدة، عرضاً تؤكده آيات وسور أخرى. ولنتدبَّرْ الآيات من سورة فاطر بهذا الخصوص:
" إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرّاً وعلانية يرجون تجاره لن تبور ليوفيهم أُجورَهم ويزيدهم من فضله إِنه غفور شكور. "
إن هذه الآيات لا تتعلَّق بزمن معيّن أو رسول واحد. إنها تمتدُّ مع امتداد رسالة الله وكتبه المنزلة لتشمل جميع من يتلون كتاب الله ويقيمون الصلاة وينفقـون مما رزقهم الله سرّاً وعلانيّة. وان مغفرة الله ورحمته، وفضله وثوابه، لا ينحصر في زمن معيّن. فالله رب المؤمنين جميعاً، يغفر لهم ويرحمهم برحمته الواسعة، ويوفيهم أجورهم، إلا من مَات على الشرك. ولقد سبق آيات أخرى في كتاب الله توضح هذه الخصائص مع الصادقين من أهل الكتاب:
" ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين. وما يفعلوا من خير فلن يُكْفَروه والله عليم بالمتقين. " [آل عمران: 113ـ115]
فهذه الآية الكريمة تفرّق بين أمتين من أهل الكتاب:
أمّة صدّقت رسولها الذي جاءها بالحق، ثم آمن من أدرك منهم محمداً - صلى الله عليه وسلم - به وبرسالته، وأمّة أخرى لم تؤمن لا برسولها ولا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
ثم تربط السُّورة رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بسائر الرسالات السابقة، ليكون مصدّقاً لها ومهيمناً عليها. وكلٌ نبيّ ورسول يكون مصدّقاً لمن سبقه من الأنبياء والرسل، وكتابه يكون مصدّقاً للكتب قبله:
" والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحقّ مصدّقاً لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير. " [فاطر: 31]
وتأخذ كلمة " كتب "، و " الكتاب " معاني متعدّدة في القرآن الكريم. فهي تأتي في أكثر من مئة وثلاثين آية في سور متعدّدة. فمن معانيها: " الكتاب الذي أُنْزِل على الرسل السابقين، و " القرآن الكريم الذي أُنْزِل على محمد - صلى الله عليه وسلم - " و " وما كتبه الله وقدّره وحكم به "، وكذلك " ما هو في الكتاب الأول عند الله - سبحانه وتعالى-، الكتاب الذي لا يُبَدَّل ولا يُغَيَّر "، وكذلك " أمّ الكتاب ". ونأخذ قبسات من القرآن الكريم لبعض هذه المعاني:
" ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. " [البقرة: 2]
" وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون. " [البقرة: 53]
" وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتابٍ مبين. " [النمل: 75]
" يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. " [الرعد: 39]
" قال الذي عنده علمٌ من الكتاب.... ." [النمل: 40]
"...والمؤمنون بعضهم أولى ببعض في كتاب الله...."[الأحزاب: 6]
" كتاب مرقوم. يشهده المقرّبون. " [المطففين: 20، 21]
ومن الواضح أن معنى " والذي أوحينا إليك... " هو القرآن الكريم، وأما كلمة " من الكتاب " هنا قد تعني الكتاب الأول عند الله الذي يضم الكتب كلها.
ونأتي الآن إلى الآيات الكريمة موضع الدراسة هنا: " ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا... "! ولقد دار خلاف بين أهل التفسير، كما ذكرنا حول مفهوم هذه الآية. ونودّ أن نطرح التصور الذي يقوم على أساس النهج الذي عرضناه.
فكلمة " أورثنا " وردت في كتاب الله في أكثر من موضع، لتعطي المعنى الممتد إلى كل من أنزل الله عليه الكتاب وجعل على الذين اتبعوه مسؤولية الالتزام والتبليغ فنأخذ قبسات من ذلك تضيء لنا المعنى.
" ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب. هدى وذكرى لأولي الألباب. "[غافر: 53ـ54]
" فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب.... " [الأعراف: 169]
" وما تفرّقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شكًّ منه مريب. " [الشورى: 14]
وكلمة " الذين اصطفينا من عبادنا " نجدها ممتدّة كذلك في القرآن الكريم إلى كل من اصطفاه الله فأنزل عليه الوحي والكتاب. ففي سورة النمل تعرض الآيات بعض قصص الأنبيـاء مع أقوامهم: موسى، وداود، وسليمان، وصالح، ولوط، - عليهم السلام - ثمّ عقّب القرآن الكريم بقوله - سبحانه وتعالى-: " قـل الحمد لله وسـلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون. "[النمل: 59]
فالاصطفاء هنا ممتد مع الأنبياء والرسل، كما ذكرت الآية الكريمة. والله يصطفي من خلقه ما يشاء:
" الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس إن الله سميع بصير. " [الحج: 75]
والصالحون من أتباع الرسل ممتدون كذلك في مختلف الرسالات كما رأينا في الآية من سورة آل عمران، وكما نرى في الآية التالية من سورة الأعراف وهي تتحدث مع الآية السابقة لها عن أهل الكتاب:
" والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين. " [الأعراف: 170]
وهذه الخصائص التي وردت هنا، وفي سورة آل عمران، هي نفسها التي وردت في الآيات (29ـ32) من سورة فاطر.
والفئات الثلاثة المذكورة في الآية من سورة فاطر: " فمنهم ظالم لنفسه "، " ومنهم مقتصد "، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله "، كُلها موجودة في أتباع الرسالات السابقة، الرسالات التي جاءت بدين واحد هو الإسلام.
فالآية الكريمة من سورة فاطر: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه.... "، تتحدث عن جميع من ورثوا الكتاب ممن اصطفاهم الله من عباده، كما بيّنا في الأدلة من الآيات التي سبق ذكرها، ممن آمنوا بالرسل واتبعوهم.
وفي سورة " ص "، تستعرض الآيات قصص بعض رسل الله وأنبيائه الذين أورثوا الكتاب والذين اصطفاهم الله، ثم تعقّب الآيات على ذلك بقوله - سبحانه وتعالى-:
" إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار. وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار. "[ص: 46ـ47]
فهؤلاء الأنبياء والرسل جميعاً اصطفاهم الله وأورثهم الكتاب وحملوا رسالة الله، فآمن بهم أناس واتبعوهم، وكفر بهم آخرون. فكان فيهم هذه الفئات الثلاث: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات. وهؤلاء عسى أن يكونوا ناجين عند الله إِلا من مات مشركاٍ. والله أعلم بعباده، وهو اعلم بمن مات مشركاً، أو بما ارتكبوا من ذنوب وآثام، وبمن يستحـق المغفرة من عباده، يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء. فالأمر لله وحده، لا يملك أحد من البشر أن يصدر شهادات بالمغفرة أو بدخول الجنة. ولكننا نقول بما علمنا الله من أحكام عامة لا ندري على من تنطبق من خلقه. ويؤكد هذا الشمول لمعنى الآية الكريمة من سورة فاطر، قوله - سبحانه وتعالى-:
" إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الأخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. "[البقرة: 62]
وكذلك قوله - سبحانه وتعالى- في سورة المائدة: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون والنصارى من آمن بالله واليوم الأخر عمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. " [المائدة: 69]
أما قوله - سبحانه وتعالى-: " فمنهم ظالم لنفسه... "، فإن معنى الظلم موضح في آيات كثيرة، تحدّد مستوى الظلم ونوعه، أو تتركه عاماً كما في هذه الآية. وللتيسير نضعها في إطارين: الأول من ارتكب معصية أو إثماً. فهؤلاء على حالين: مقيم على المعصية والإثم حتى مات دون توبة، أو مقلع عن المعصيـة بالتوبة والعمل الصالح. فالحالة الأولى أصحابها مرجون لأمر الله، وأما الحالـة الثانية فقد وعدهم الله بالمغفرة إن علم في قلوبهم صدق التوبة. أما الإطار الثاني: فهو من مات مشركاً فلا مغفرة له. والشرك ظلم عظيم، والنفاق ظلم عظيم، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار: " وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بُنيَّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم. " [لقمان: 13]
" إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً. " [الناس: 48]
ونؤكد أن ما نعلمه من الكتاب والسنة حكم عام، لا ندري كيف يكون حال هذا العبد أو ذاك يوم القيامة بين يدي الله. فالأمر لله، هو وحده يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ويظل المؤمن بين الخشية والرجاء.
وكلمة " ثمَّ " في قوله - سبحانه وتعالى-: " ثُمَّ أورثنا الكتاب... " يمكن أن تعني العطف أكثر منها للترتيب، كما في قوله - سبحانه وتعالى-: " فإلينا مرجعهم ثمّ الله شهيد على ما يفعلون. " [يونس: 46]
فالله شهيد على ما فعلوه في الدنيا، وكأن المعنى: " فإلينا مرجعهم والله شهيد على ما يفعلون. ".
و نخلص من ذلك، على أساس هذا العرض، أن الآيات الكريمة: " ثمّ أورثنا الذين اصطفينا من عبادنا..... " تعرض حقيقة ربّانيّة ثابتة مع جميع العصور ومع جميع الرسل ومن اتبعهم. فمن الذين اتبعوهم من هو ظالم لنفسه، ويشمل الظلم جميع أنواعه، فمنه ما يغفـر الله عنه إن شاء، فله الأمر، ومنه ما لا يغفره الله إذا مات صاحبه عليه، وأكبره الشرك، والأمر يومئذ لله يغفر لمن يشاء و يعذّب من يشاء، على حكمة لله بالغة وعدل حق لا ظلم معه أبداً، على ميزان رباني قسط.
ثم تأني الآية الكريمة: " جنات عدن يدخلونها يحلّون فيها... "! فمن هم أولئك الذين يدخلونها؟ ! فلا بد أن تنسجم هذه الآية الكريمة مع سائر الآيات الكريمة في كتاب الله، مما هو متعلق بهذا الموضوع، ومع الأحاديث الشريفة. فجميع الأصناف أو الفئات الثلاث يحتاجون إلى رحمة الله ومغفرته حتى يدخلوا الجنّة. فلا أحد يدخل الجنّة بعمله فقط، ولكن بعمله ينال رحمة الله ومغفرته فيدخل الجنّة. والمعنى جليّ بالنسبة للفئتين الثانية والثالثة، فإنهم بعملهم ينالون رحمة الله ومغفرته، فيدخلون الجنّة. أما الصنف أو الفئة الأولى: " فمنهم ظالم لنفسه "، فأمره مختلف لأنه يعتمد على نوع الظلم الذي ظلم به نفسه، كما بيّنا قبل قليل. ولا نستطيع أن نقول إن " فمنهم ظالم لنفسه "، من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحدهم هم المفغور لهم، ولا نستطيع أن نقول إن هذه الفئات الثلاث هي في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحدها، فكلهم موجودون في أتباع الرسالات السابقة، وكلهم ينالون رحمة الله ومغفرته على ميزان رباني حق عادل، ورحمة الله ومغفرته عامة لعباده المؤمنين في مختلف العصور.
وإذا تميّزت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وتميّز أصحابه وتميّزت أمته، فذلك في أمور غير هذه، غير الرحمة والمغفرة ودخول الجنة، فذلك له ميزان عام لجميع المؤمنين من عباد الله من أتباع الرسالات كلها. محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين وإمامهم وسيدهم، ورسالته جامعة مهيمنة مصدّقة لما سبقها، وأصحابه - رضي الله عنهم - حملوا الرسالة مع نبيّهم وآزروه وما خذلوه، وخصائص أخرى كثيرة لا مجال لتعدادها هنا، إلا أن رحمة الله ومغفرته عامّة لعباده كلهم في جميع العصور إلى يوم القيامة على ميزان قسط لا ظلم معه.
ونود الآن أن نطبق هذه الآيات الكريمة على واقعنا. وبصورة خاصة كيف نفهم: " فمنهم ظالم لنفسه... " في واقع المسلمين اليوم من أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم -. فهل كل من ظلم نفسه اليوم من أمة محمد مغفور له مهما كان نوع الظلم؟ !
إن عدد المنتسبين إلى الإسلام اليوم يقرب من المليار، على أحوال شتىّ من درجات الظلم أو الاقتصاد أو المسارعة في الخيرات. فمن المنتسبين إلى الإسلام اليوم من لا يعرفون الإسلام، ولم يتدبّروا منهاج الله، ولم ينهضوا لطلب العلم منه كما أمرهم الله ورسوله، ومنهم من يقضي حياته كلها لا يصلّي ولا يصوم، ومنهم من يوالي العلمانيّة بشعار الإسلام، ويتبنّى أفكارهم المخالفة للإسلام صراحة، ومنهم من يدعو إلى العلمانيّة وما يتبعها بدلاً من الدعوة إلى الله ورسوله، ومنهم المنافقون، ومنهم مرتكبو الآثام والمعاصي والداعون لها والناشرون للفتنة والفساد في الأرض، ومنهم من يوالي أعداء الله ويقف في صف الكافرين في صورة جليّة.
فلننظر إلى عدد المصلين في المساجد حتى لو امتلأت، فإنهم لا يمثلون إلا نسبة قليلة من المنتسبين إلى الإسلام.
والآيات الكريمة التي تتحدّث عن هذه الفئات، إنما تتحدّث عن أمّة مسلمة واحدة في صف واحد كالبنيان المرصوص. فما هو حكم الإسلام في التمزّق الحالي بين المسلمين، وما حكمه في من رضي به أو ساهم في بقائه ولم ينهض لإزالته؟ ! أين هي الأمّة المسلمة المتراصّة التي تطبّق فيها هذه الآيات الكريمة. إن الأمة المسلمة الواحدة هي أمة محدّدة الخصائص العمليّة المتوافرة في الواقع فإذا انتفت هذه الخصائص فكيف تكون الأمة المسلمة الواحدة؟ !. وتدبر هذه الآيات الكريمة: " كنتم خير أمة أُخْرِجَتْ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ". [آل عمران: 110]
" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة. " [البيّنة: 7]
وآيات أخرى كثيرة تبيّن خصائص الإيمان وخصائص الأمة المسلمة الواحدة التي هي خير أمة أخرجت للناس! أين هي الأمة المسلمة الواحدة بهذه الخصائص؟ وكذلك: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. "[آل عمران: 104]
وأين اليوم هذه الأمة المسلمة الواحدة؟ ! وهل واقع المسلمين اليوم يكشف عن هذه الأمة وعن خصائصها الربانيّة، أم يكشف عن صورة أخرى تمثلها الآية الكريمة التالية: " ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم. يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. " [آل عمران: 105 ـ 106]
وكذلك قوله - سبحانه وتعالى-: "إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون. " [الأنعام: 159]
ألا نرى كيف انتشرت العصبيات الجاهليّة وغُرِسَتْ في قلوب كثير من المنتسبين إلى الإسلام؟ ! ألا نرى مظاهر الوهن والذلّة وضياع ديار المسلمين والحكم بغير ما أنزل الله، وانتشار الزنى والخمر والفاحشة بصورة علنيّة؟ !
فما حكم من ظلموا أنفسهم وكانوا في صنف من هذه الأصناف، ثم ماتوا على ما هم عليه؟ ! هل كلّ هؤلاء مغفور لهم لأنهم منتسبون إلى الإسلام، وهل يكفي الانتساب للنجاة من النار؟ !
كم من الأحاديث الشريفة تبين أن من يصلّي لن تفيده عند الله صلاته وقد علم الله ما في قلبه من نفـاق أو شـرك أو فساد؟ ! وكذلك حال بعض الصائمين؟ !
من بين المنتسبين إلى الإسلام من يصدّون عن سبيل الله، وينحرفون عن الصراط المستقيم انحراف نهج، ويؤولون آيات الله تأويلاً على غير ما أُنزلت له.
أن أنواع الأمراض في واقع المسلمين أكثر من أن تحصرها هذه الكلمة الموجزة. لكنها أمراض خطيرة تنذر بخطر كبير في الدنيا والآخرة، وقد يكون بينها الشرك بجميع أنواعه أو ببعض أنواعه، مما يعلمه الله في صدور الناس.
لسنا بحاجة اليوم إلى أن نطمئن الناس بعامة أنهم مغفور لهم لأنهم منتسبـون إلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. إننا بحاجة إلى " الوقفة الإيمانية " الصريحة الواضحة، الوقفة التي دعونا لها منذ أكثر من ثلاثين عاماً دعوة إلحاح ومازلنا ندعو لها، حتى نعرف أمراضنا بجلاء، ونضع العلاج قبل فوات الفرصة. إن الواقع خطير، فلا حاجة لنا إلى أن نخدَّر الناس بأكثر مما هم مخدّرون به. واجبنا هو تنبيه الناس إلى حقيقة الأمراض، وإلى أبواب العلاج والتوبة عسى الله أن يغفر لنا.
[/b