وداع شهر الخير
الخطبة الأولى
الحمد لله، تتمّ الصالحات بنعمته، وتكفَّر السيئات وتُقال العثرات بمنَّته، وتضاعَف الحسنات وترفع الدرجات برحمته، سبحانه ﴿ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ﴾ [الشورى: 25]، أحمده تعالى وأشكره على جزيل العطايا والهبات، وأشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له بارئ النسمات، وأشهد أن نبينا محمداً عبده المصطفى ورسوله المجتبى أفضل البريات، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والمكرمات، ومن اقتفى أثرَهم ما تجدَّدت المواسم ودامت الأرض والسموات.
أما بعد:
أيها المؤمنون، هذا هو رمضان ولى وانصرم، كأنما هو طيف عابر، مر ولم نشعر فيه بمضي الزمان ولا بكرِّ الليالى والأيام. هكذا العمر يمر بنا ونحن لا نشعر، يكون بعضنا غارقاً في شهواته حتى يغزو الشيب مفرقيه، نذير أجل محتوم قد يحل بساحته، قد يحل الأجل والغافل لم يستعدَّ بعد للرحيل، فإذا حانت ساعة الميعاد، فلات حين مناص، يحمل الغافل على الأعواد، ويُدَس بين الألحاد، والذنب كثير، والعمل قليل، وحينئذ لا ينفعه أن يعض على أصبع الندم، ولا أن يهتف وينادي: يا ليتنى أردّ فأعمل غير الذي كنت أعمل، فالعمر فرصة لا تمنح للإنسان إلا مرة واحدة، فإذا ما ذهبت هذه الفرصة وولت فهيهات أن تعود.
وبقيت رمضان ليلة القدر، وأصح الأقوال أنها في العشر الأواخر، بل في الوتر من العشر الأواخر، كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم -: "تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان"، وأصح أقوال أهل العلم والإيمان أنها تتنقل في الوتر من العشر، فسنة تكون ليلة إحدى وعشرين، وسنة تكون في غيرها من ليالي الوتر، كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أريت ليلة القدر فنسيتها، وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين"، يقول الصحابي راوي الحديث: (فمطرنا ليلة إحدى وعشرين فخر المسجد، فصلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الصبح فسجد في ماء وطين). وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تحرّوا ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين"، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم -: "التمسوا ليلة القدر ليلة سبع وعشرين"، وقوله: "تحروا ليلة القدر، فمن كان متحريها فليتحرَّها في ليلة سبع وعشرين"، وقد قال أبي بن كعب رضي الله عنه: (والله الذي لا إله غيره إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي جمع فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أهله والناس أجمعين فصلى بهم حتى الصبح، ليلة سبع وعشرين)، ففي تلك السنة كانت ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم -: "التمسوا ليلة القدر آخر ليلة من ليالي رمضان"، أي ليلة تسع وعشرين.
فكل تلك الروايات الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - تدل بوضوح أنها لا تلزم ليلة السبع والعشرين في كل السنين، بل ربما كانت في سنة في ليلة إحدى وعشرين، وفي سنة أخرى في ليلة ثلاث وعشرين، وهكذا إلى تسع وعشرين.
ولما كان دخول شهر رمضان يختلف فيه الناس، فرب ليالٍ نعدها أوتاراً هي في واقع الأمر شفع ليست بوتر، وإذا كان الأمر كذلك فإن العبد المسدد لا يقصر نشاطه على الأوتار من العشر، بل يجتهد في العشر كلها مقتدياً في ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
وليلة القدر سميت بذلك لشرفها وعلو قدرها، فعبادة فيها تعدل عبادة في ثلاثة وثمانين سنة، وسميت بذلك أيضا لأنها تقدَّر فيها مقادير العام الذي يليها، فيفصل من اللوح المحفوظ إلى كل ملك ما وكِّل إليه القيام به في كل عام، فملك الموت يعلم الأرواح التي يقبضها في كل عام، وهكذا يفرق في هذه الليلة من اللوح المحفوظ كل أمر محكم، فيعلم به من سينفذه من العباد المكرمين، الذين لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، قال الله سبحانه: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4]. وسماها الله جل وعلا مباركة كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3]. ومن بركاتها أن الملائكة تتنزل فيها من السماء، كما قال سبحانه: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ﴾ [القدر: 4]، والروح هو جبريل عليه السلام، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى"، ومن بركاتها ما صح عنه - صلى الله عليه وسلم -: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". ثم اعلموا - يا عباد الله - أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - سألته إن هي أدركت ليلة القدر ما تقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
فيا من فرط استدرك. ماذا نصنع حتى نتدارك ما فات؟ ورمضان قد تهيّأ للرحيل فلم يبق منه إلا ليال.
علينا - يا عباد الله - أن نعترف بذنوبنا، وأن نتوب التوبة الصادقة النصوح، وأن نتوجه إلى الله تعالى بالدعاء بالمغفرة والعتق من النار. فاغفر لنا يا ربّنا وأعتقنا من النار، ألم تقل يا ربّنا: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]؟! ألم تقل يا ربنا: ﴿ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ﴾ [الرعد: 6]؟! وأما من استغفر بلسانه وقلبهُ على المعصية معقود، وهو عازم بعد الشهر إلى المعاصي أن يعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود، كيف لا؟ وقد قابل نداء الله: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53] بالإعراض والصدود.
أيها المسلمون، إن الاستغفار هو ختام الأعمال كلّها، فيختم به في الصلاة كما في صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا. ويُختم به في الحج، قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199]، ويختم به قيام الليل، يمدح الله تعالى عباده المتقين ويصفهم فيقول: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 16، 17]، وقال تعالى كذلك في وصفهم: ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 18]، ويختم به كذلك في المجالس، فإن كانت ذكراً كان كالطابع لها، وإن كانت لغوا كان كفّارة لها. وكذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار، فمن أحب منكم أن يحطّ الله عنه الأوزار، ويعتقه من النار، فليكثر من الاستغفار، بالليل والنهار، لا سيما في وقت الأسحار.
ومما يستحسن ختم هذا الشهر به أيضاً عتق الرقاب، وعتق الرقاب يوجب العتق من النار كما دل على ذلك الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن سعيد بن مرجانة صاحب علي بن الحسن قال: قال أبو هريرة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيما رجل أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار"، ومن فاته عتق الرقاب لانعدامها فليكثر من شهادة التوحيد، فإنها تقوم مقام عتق الرقاب، قال: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرار كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل"، وقال: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل ممّا جاء به إلا أحدٌ عمِل أكثر من ذلك".
واعلموا عباد الله أن الجمع بين شهادة التوحيد والاستغفار من أعظم أسباب المغفرة والنجاة من النار، وكشف الكربات، وقضاء الحاجات. لهذا جمع الله تعالى بينهما في قوله: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾ [محمد: 19]، وفي قوله: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87].
فأكثر - أخي المسلم - من طاعة الله لا سيما من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأكثر من الاستغفار وغيرها من الأذكار والأعمال الصالحة قبل فوات هذه الفرصة العظيمة، فإنه إن لم يُغفر لك في هذا الشهر فمتى سيغفر لك؟!
قال قتادة رحمه الله: "كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له فيما بقي".
فيا من جد، واصل ولا تغتر، حذار من الاغترار بما صنعت، وكن كمن قال الله جل وعلا فيهم: ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18]، ما استغفروا إلا لاستشعارهم تقصيرَهم في جنب الله، رغم قيامهم أكثر الليل، وكن كمن قال الله جل وعلا فيهم: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60]. وتذكر أن ما أنت فيه إنما هو بفضل الله وتوفيقه لك، فالذي أعطاك ووفقك هو الذي حرم غيرك ومنعه، فقل كما قال الصالحون: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 43]. واعتبر بما قاله الله لعبده ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 86، 87]، حتى عدها بعض السلف أعظم تهديد في كتاب الله.
فكن خافض الجناح، مجتهداً في الطاعة، خائفاً من عدم القبول، ﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99]، ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]. ولا تدري أتكون منهم أم لا؟
أيها المسلمون، من الذي طلبه الموت فأعجزه؟! من الذي تحصَّن في حصنه وما أدركه؟! من الذي سعى في مُناه فما أعوزه؟! من الذي أمّل طول الأجل فما حجزه؟! أي عيش صفا وما كدّره؟! وأي غصن علا على ساقه وما كسره؟! لقد أخذ الآباء والأجداد، وأرمل النساء وأيتم الأولاد، وحال بين المريد والمراد.
يا عبد الله، جدّ القوم وأنت قاعد، وقربوا وأنت متباعد، وقاموا وأنت راقد، وتذكروا وأنت شارد، إن قام العُبادُ لم تُرَ بينهم، وإن عُدَّ الصالحون فلست معهم، ترجو النجاة ببضاعة مزجاة، فلا صلاة ولا مناجاة، ولا توبة ولا مصافاة، لقد باشر الصالحون ليالي رمضان بصفاح وجوههم، وقيام أبدانهم، خالف خوف الله بينهم وبين السُهاد، وأطار من أعينهم الرقاد، عيونهم من رهبة الله تدمع، قلوبهم من خوفه تلين وتخشع، يعبدونه في ظلمة الليل والناس ضُجَّع، قومٌ أبرار، ليسوا بأثمة ولا فُجار، فيا من قضيت ليلك في معصية الخالق، وأضعت ليالي رمضان الشريفة في المحرمات والبوائق، يا لها من خسارة لا تشبهها خسارة، أن ترى أهل الإيمان واليقين، وركائب التائبين وقوافل المستغفرين، قد حظوا في ساعات الليل بالقرب والزلفى والرضوان، وقد رُميت بالطرد والإبعاد والحرمان، استدرك من رمضان ذاهباً، ودع اللهو جانباً، والحق بالقافلة، وتقلب في منازل العبودية بين فرضٍ ونافلة، واجعل الحياة بطاعة ربك حافلة، وحافظ على التراويح والقيام، فيما تبقى من الأيام، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" [متفق عليه]، وقال: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة".
فتقوا الله عباد الله وفكروا في أمركم ماذا عملتم في شهركم الكريم؟ فإنه ضيف كريم قارب الزوال وأوشك على الانتهاء والارتحال وسيكون شاهدا لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فابتدروا - أيها المسلمون - ما بقي منه بصالح الأعمال والتوبة إلى الله والاستغفار، لعل ذلك يجبر ما حصل من التفريط والإهمال، لقد كانت أيام هذا الشهر الكريم معمورة بالصيام والذكر والقرآن، ولياليه منيرة بالصلاة والقيام، وأحوال المتقين فيه على ما ينبغي ويرام، فمضت تلك الأيام الغرر وتلك الليالي الدرر كساعة من نهار، فيا أسفا على تلك الليالي والأيام، لقد مضت أوقات شهرنا سراعا وكان كثير منها في التفريط مضاعا، فنسأل الله تعالى أن يخلف علينا ما مضى منها، وأن يبارك لنا فيما بقي منها، وأن يختم لنا شهرنا بالعفو والغفران والقبول، والعتق من النار وبلوغ المأمول، وأن يعيد أمثاله علينا في خير وأمن وإيمان.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية
وداع شهر الخير
الحمد لله حمد الذاكرين الشاكرين لنعمه وآلائه، وأصلي وأسلم على أفضل خلق الله وسيد الخلق أجمعين محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه. أما بعد.
هكذا أخوتي في الإسلام انقضى شهر رمضان فإن عمل المؤمن لا ينقضي حتى الموت، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]، وقال عيسى عليه السلام عن ربه: ﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 31]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
ولقد شرع الله عز وجل في نهاية هذا الشهر المبارك عبادات لتعلموا أن الحياة الدنيا جعلها الله عز وجل ليبلونا أينا أحسن عملاً الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، فما تنقضي عبادة إلا ويتبعها عبادة أخرى.
الله عز وجل شرع لنا في نهاية الشهر المبارك عبادات تزيدنا من الله قربة، فشرع لنا زكاة الفطر وهي فريضة شرعها الله عز وجل على الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والحر والعبد، وهي صاعًا من طعام أي صاعًا من قمح، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط، أو غيرها من قوت الآدميين، والصاع يساوي هذا اليوم كيلوين ومائتي غرام تقريبا. وكلما كان من هذه الأصناف أطيب وأنفع للفقراء فهو أفضل وأعظم أجرا فطيبوا بها نفسا، وأخرجوها من أطيب ما تجدون، فلن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وهي ولله الحمد قدر بسيط لا يجب في السنة إلا مرة واحدة، فكيف لا يحرص الإنسان على اختيار الأطيب مع أنه أفضل عند الله وأكثر أجرا؟. فهذه الزكاة مفروضة على كل قادر على إخراجها، وهي زكاة البدن طهرة للصائم من اللهو والإثم، وشكر لله على إتمام الصيام والأعمال الصالحة.
هذا الشهر شهر إحسان للفقراء ويجب أن يخرجها المسلم عن نفسه وعمن تلزمه نفقته من زوجه وأولاده وسائر من ينفق عليهم ويعولهم، ولا يجب إخراجها عن الجنين الذي في البطن فإن أخرجها فهو خير، ويخرجها في البلد الذي وفاه فيه تمام الشهر وهو فيه، ووقت إخراجها من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، فمن أخرها إلى ما بعد ذلك فهي صدقة من الصدقات كما قال المصطفى، ولكنها لا تسقط عنه، ويلزمه إخراجها ويجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين، ولكن لا يجوز تعجيلها أكثر من ذلك؛ والمستحب إخراجها بعد صلاة فجر يوم العيد وقبل صلاة العيد، لأن المقصود بها إغناء الفقراء عن المسألة يوم العيد، هذا هو المقصود من هذه الصدقة، ولا يجزئ دفع زكاة الفطر إلا للفقراء خاصة والواجب أن تصل إلى الفقير أو وكيله في وقته، ومن أهم مقاصد هذه الصدقة، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. ولا يجوز تأخيرها بعد العيد ولا يجوز البدل عنها، أي القيمة على الراجح من أقوال العلماء فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صاع من طعام"، وإن الذهب والورق كانا يتداولان في عهده، ومع ذلك لم يشر إليهما عليه الصلاة والسلام.
ومن العبادات التي شرعها الله لنا في نهاية هذا الشهر:
العيد، والعيد إنما هو لشكر الله على تمام الصيام والقيام لإتمام فعل الخيرات في هذا الشهر المبارك، ولنا أن نتكلم عن بعض أحكام العيد حتى نكون على علم بهذه العبادة، فمن الناس من فرط في صلاة العيد، ومنهم من ابتدع بدع ما أنزل الله بها من سلطان، فلابد من الإشارة إلى موضوع العيد والصلاة والتكبير ونحو ذلك.
يقول: "قد أبدلكم الله بها خيرًا" أي العيدين، يوم النحر ويوم الفطر، وهذا الحديث منه يدل على أن للمسلمين عيدان "عيد الفطر وعيد الأضحى"، وما عداهما من الأعياد فليست من الإسلام في شيء، ولا يشرع للمسلمين أن يشاركوا فيها أبدًا.
وهناك آداب وأحكام للعيد:
منها جواز التجمل في يوم العيد، وذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن اتخاذ عمر رضي الله عنه جبة يلبسها في العيد، فكان يلبس أحسن ثيابه في العيدين.
كذلك الخروج إلى المصلى، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة" رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وكذلك الذهاب والإياب للمصلى، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخالف الطريق يوم العيد، فيذهب في طريق ويرجع في طريق آخر، وكذلك يشرع التكبير في العيدين، ولنا عند التكبير وقفات:
أولاً: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يذهب في يوم الفطر فيكبر حتى يأتي المصلى وحتى يقضي الصلاة فإذا قضى الصلاة قطع التكبير، فالمشروع للمسلمين أن يخرجوا من ديارهم بعد صدقة الفطر، أن يخرجوا للمصلى مكبرين، أن يكبروا الله سبحانه وتعالى على ما هداهم للصيام والقيام، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر الله أكبر كما ورد ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، فالتكبير يكون جهرًا للمصلي، وإن كانت هذه السنة تخفى على بعض الناس ولا نراهم يفعلونها وهم يسيرون إلى المصلى، فتراهم صامتين وإذا جلسوا في المصلى كبروا، والصحيح أن التكبير من حين الخروج من البيت ويرفع صوته بالتكبير، ومما يحصل التذكير به في هذه المناسبة أن الجهر بالتكبير هنا لا يشرع الاجتماع عليه بصوت واحد كما يفعله البعض. ومن العجب أن ينقسم المصلى إلى قسمين، شطر يكبر وآخر يصمت، شطر يكبر جماعة فإذا انتهى شطر كبر الشطر الآخر، من أين أتى الناس بهذا الكلام؟ هل ثبت هذا عن رسولنا؟ سبحان الله هذه بدعة لأن الإتيان بكيفية معينة لم ترد عن الرسول بدعة، والله عز وجل ما تعبدنا بالبدع، فليكبر كل إنسان بنفسه، فإذا حصل الاجتماع هكذا من غير اتفاق فلا بأس، لا حرج علينا أن نلتزم بما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنكبر من خروجنا من البيت إلى المصلى، ونكبر كذلك في المصلى حتى يأتي الإمام.
ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56] اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن البررت الأتقياء، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والأكرام.
اللهم وفقنا للتوبة والإنابة وأفتح لأدعيتنا الإجابة، اللهم أقبل توبة التائبين وأغفر ذنب المذنبين برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم نسألك التوبة ودوامها ونعوذ بك من المعصية وأسبابها يا رب العالمين.
اللهم أعد علينا رمضان أعواماً عديدة وأزمنة مديدة، وأجعنا فيه من المرحومين، ولا تجعنا من المحرومين، اللهم وأجعنا ممن قبلت صيامه وقيامه، وغفرت له زلاته، وحرمت على النار جسده وعظامه.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينها عن الفحشاء والمنكر والبغي يعضكم لعلكم تذكرون ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
المصدر اسلام ويب