من الألفاظ المركزية في القرآن الكريم لفظ (السبيل). وهو في أصله اللغوي يدل على أمرين: الأول: إرسال شيء من علو إلى سفل. والثاني: امتداد شيء. فمن الأول قولهم: أسبلت الستر، وأسبلت السحابة ماءها وبمائها. والسبل: المطر الجود، وقيل للمطر: سبل ما دام سابلاً، أي: سائلا في الهواء. ومنه قولهم لأعالي الدلو: أسبال. ومن الثاني: السبيل: وهو الطريق؛ سمي بذلك لامتداده. وجمعه سُبُل. قال تعالى: {وأنهارا وسبلا} (النحل:15). وقيل لسالكه: سابل، وجمعه سابلة، والسابلة: المختلفة في السبل جائية وذاهبة. وقالوا: سبيل سابلة: أي مسلوكة. قال الطبري: "أما {السبيل}، فإنها الطريق المسبول - المسلوك - صُرف من (مسبول) إلى {سبيل}. وسمي السنبل سنبلاً؛ لامتداده، يقال: أسبل الزرع، إذا خرج سنبله.
ويستعار لفظ (السبيل) في مواضع، فيفيد معاني أُخر، تدل عليها القرينة. ويُستعمل (السبيل) لكل ما يُتوصل به إلى شيء، خيراً كان أو شراً، قال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك} (النحل:125)، فهذا في الخير. وقال سبحانه: {ولتستبين سبيل المجرمين} (الأنعام:55)، وهذا من الشر. و(السبيل) يُذكَّر ويؤنث، قال تعالى: {وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا} (الأعراف:146)، فذكَّر (السبيل). وقال جل ذكره: {قل هذه سبيلي} (يوسف:108)، فأنث (السبيل).
ولفظ (السبيل) ورد في القرآن الكريم في خمسة وسبعين ومائة موضع (175)، جاء في جميع تلك المواضع بصيغة الاسم، من ذلك قوله عز وجل: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات} (البقرة:154). ولم يرد لفظ (السبيل) في القرآن بصيغة الفعل. وورد لفظ {السبيل} مضافاً إلى لفظ الجلالة في {سبيل الله} في خمسة وستين آية، وورد مضافاً إلى ضمير لفظ الجلالة {سبيله} في أحد عشر موضعاً.
ولفظ (السبيل) ورد في القرآن الكريم على عدة معان، نذكر منها:
{السبيل} بمعنى (طاعة الله)، وهو كثير في القرآن الكريم، من ذلك قوله سبحانه: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} (البقرة:190)، يعني : قاتلوا طاعة لله الذين يقاتلونكم . ومنه أيضاً قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله} (البقرة:195)، أي: أنفقوا أموالكم في مصارفها الشرعية طاعة لله.
و{السبيل} بمعنى (القدرة والطاقة)، وعلى هذا فُسِّر {السبيل} في قوله عز من قائل: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران:97)، قال الطبري بعد أن ذكر عدة أقوال في المراد بـ {السبيل} في هذه الآية: "وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: إن ذلك على قدر الطاقة؛ لأن {السبيل} في كلام العرب: الطريق، فمن كان واجداً طريقاً إلى الحج، لا مانع له منه من زمانة، أو عجز، أو عدو، أو قلة ماء في طريقه، أو زاد، أو ضعف عن المشي، فعليه فرض الحج، لا يجزيه إلا أداؤه". وليس في القرآن الكريم على هذا المعنى لـ {السبيل} إلا هذه الآية.
و{السبيل} بمعنى (المخرج)، من ذلك قوله تعالى في حق الفاحشات من النساء: {أو يجعل الله لهن سبيلا} (النساء:15)، يعني: مخرجاً مما هن فيه. ومنه أيضاً قوله سبحانه: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا} (الإسراء:48)، يعني: مخرجاً.
و{السبيل} بمعنى (المسلك والطريق)، من ذلك قوله عز وجل: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا} (النساء:22)، يعني: بئس المسلك أن تفعلوا ذلك. ونظيره أيضاً قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} (الإسراء:32)، قال ابن كثير: "أي: وبئس طريقاً ومسلكاً". وقال الطبري: "وساء طريق الزنا طريقاً؛ لأنه طريق أهل معصية الله، والمخالفين أمره، فأسوئ به طريقاً، يورد صاحبه نار جهنم". ومن هذا القبيل قول الباري سبحانه: {عسى ربي أن يهديني سواء السبيل} (القصص:22)، أي: إلى الطريق الأقوم، وهو طريق الحق.
و{السبيل} بمعنى (دين الإسلام)، من ذلك قوله عز وجل: {ويتبع غير سبيل المؤمنين} (النساء:115)، قال الرازي: يعني: غير دين الموحدين. ومنه أيضاً قوله سبحانه: {ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} (النساء:150)، قال البغوي: أي: ديناً بين اليهودية والإسلام، ومذهباً يذهبون إليه. ونحو هذا قال القرطبي.
و{السبيل} بمعنى (الهدى)، من ذلك قوله سبحانه: {ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا} (النساء:88)، قال ابن كثير: أي: لا طريق له إلى الهدى، ولا مخلص له إليه. ونظيره قوله تعالى: {ومن يضلل الله فما له من سبيل} (الشورى:46)، قال الطبري: ومن يخذله عن طريق الحق، فما له من طريق إلى الوصول إليه؛ لأن الهداية والإضلال بيده سبحانه دون أحد سواه.
و{السبيل} بمعنى (الحجة)، من ذلك قوله عز وجل: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} (النساء:141)، قال الطبري: يعني: حجة يوم القيامة. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وعلى الله قصد السبيل} (النحل:9). أي: على الله تبيين الطريق المستقيم، والدعاء بالحجج والبراهين الواضحة.
و{السبيل} بمعنى (المؤاخذة والعقوبة )، من ذلك قوله سبحانه: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} (الشورى:41)، أي: بمؤاخذة ولا عقوبة ، لأنه وقع عليهم الظلم ، وقوله بعدها {إنما السبيل الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} ( الشورى 42) فهؤلاء هم المؤاخذون الذين تقع عليهم العقوبة لظلمهم وبغيهم بغير حق ، ومنه قوله سبحانه : {ما على المحسنين من سبيل} (التوبة:91) أي: ليس على الذين تخلفوا عن الغزو لمرض أو عجز مؤاخذة أو إثم بسبب تخلفهم وقعودهم عن الجهاد؛ لأنهم معذورون ، وإنما المؤاخذة والعقوبة في الذين تخلفوا من غير عذر يسوغ لهم ذلك ، قال الرازي: لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد. ولذا قال بعدها : {إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء} (التوبة:93)، قال الطبري: ما السبيل بالعقوبة على أهل العذر، يا محمد، ولكنها على الذين يستأذنونك في التخلف خلافك، وترك الجهاد معك، وهم أهل غنى وقوة وطاقة للجهاد والغزو؛ نفاقاً وشكاً في وعد الله ووعيده.
و{السبيل} بمعنى (الملة والمذهب)، من ذلك قوله عز وجل: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله} (يوسف:108)، قال ابن كثير: أي: طريقه ومسلكه وسنته. ومنه أيضاً قوله سبحانه: {ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام:153)، قال البغوي: {سبيله} طريقه ودينه الذي ارتضاه لكم.
والمستفاد من تتبع لفظ {السبيل} في القرآن الكريم، أن جميع المعاني التي جاء عليها هذا اللفظ، إنما تعود عند التحقيق والتدقيق إلى المعنى اللغوي الأول، وهو (الطريق) الممتد، لكن السياقات المختلفة التي ورود فيها اللفظ، أضفت عليه معنى جديداً، أو معنى مجازيًّا، خرجت به عن أصله الحقيقي ، ليفيد معنى أوسع، وهذا من إعجاز العربية لغة القرآن الكريم.