إنَّ بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها, ولا ريب أنَّ سموَّ الأهداف وشرف المقاصد، ونبل الغايات تقتضي سموَّ التَّضحيات وشرفها، ورقي منازلها, وإذا كان أشرف التَّضحيات وأسماها هو ما كان ابتغاء رضوان الله تعالى، ورجاء الحظوة بالنَّعيم المقيم، في جنَّات النَّعيم, فإنَّ الذَّود عن حياض هذا الدِّين، والذبَّ عن حوذته، والمنافحة عن كتابه وشرعه ومقدساته، يتبوأ أرفع درجات هذا الرِّضوان, ثمَّ إنَّ للتَّضحيات ألوانًا كثيرة، ودروباً متعددة, لكن! تأتي في الذِّروة منها التَّضحية بالنَّفس, وبذل الرُّوح رخيصة في سبيل الله، لدحر أعداء الله، ونصر دين الله, وذلك هو المراد لمصطلح الشَّهادة والاستشهاد.
يجود بالنَّفس إن ضنَّ البخيلُ بها *** والجودُ بالنَّفس أقصى غاية الجود
ولقد جهِد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كلَّ جهدٍ, واستوفى غاية وسعه في ترسيخ جذور هذا المعنى العظيم, وتعميق مفهوم هذا المصطلح الجهادي، في نفوس أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ثمَّ في نفوس أمته من بعدهم, سالكًا في ذلك مسلكين:
المسلك الأول:
إفصاحٌ بيِّنٌ وإيضاحٌ جليٌّ لما يعتمد في ذات نفسه الشَّريفة، من حبٍّ عميق للشَّهادة، حمله على التَّمنِّي أن يرزق بها مراتٍ متعددة, فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «والذي نفسي بيده! لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل, ثمَّ أغزو فأقتل, ثمَّ أغزو فأقتل» (أخرجه البخاري، ومسلم في صحيحيهما). وإنَّها لأمنية يا لها من أمنية! كيف انبعثت من هذا القلب الطَّهور؟! معبرةً أبلغ التَّعبير عن هذا الحبِّ العميق, والشَّوق الغامر، إلى هذا الباب العظيم، من أبواب جنَّات النَّعيم.
المسلك الثَّاني:
في ترسيخ مفهوم الشَّهادة، وإحيائه في القلوب، وبعثه في النُّفوس، وذلك فيما ثبت عنه صلوات الله وسلامه عليه في صحيح السُّنة الشَّريفة، من بيان محْكم، وإيضاح دقيق لفضل الشَّهادة، ومنازل الشُّهداء في دار الكرامة، عند مليك مقتدر, في الطَّليعة من ذلك بيان صفة حياة الشُّهداء عند ربهم, فعن مروان أنَّه قال: "سألنا عبد الله عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}" [آل عمران: 169].
فقال: "أمَا إنَّا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: {أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنَّة حيث شاءت, ثمَّ تأوي إلى تلك القناديل}" (رواه مسلم).
ومنها أنَّ للشَّهيد عند ربِّه ستُّ خصالٍ، جاءت مبيَّنة في حديث المقدام بن معد يكرب -رضي الله عنه- أنَّه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «للشَّهيد عند الله ستُّ خصالٍ: يغفر له في أول دُفعة» -والدُّفقة بضم الدَّال المهملة: هي الدّفعة من الدَّم وغيره-«ويرى مقعده من الجنَّة, ويُجار من عذاب القبر, ويأمنُ من الفزع الأكبر, ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدُّنيا وما فيها, ويُزوَّج اثنتين وسبعين من الحور العين, ويشفع في سبعين من أقاربه» -وفي لفظ-: «من أهل بيته» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ومنها أنَّه يخفَّف عنه مسُّ الموت، حتَّى إنَّه لا يجد من ألمه إلا كما يجد أحدنا من مسِّ القرصة, وقد أخرج التِّرمذي، والنِّسائي، وابن ماجه في سننهم، وابن حبان في صحيحه بإسناد صحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما يجد الشَّهيد من مسِّ القتل، إلا كما يجد أحدكم من مسِّ القرصة».
ومنها أنَّ دورَ الشُّهداء في الجنَّة أحسن الدُّور وأفضلها, فقد أخرج البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنَّه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «رأيت الليلة رجلين، أتياني فصعدا بي الشَّجرة، فأدخلاني داراً، هي أحسن وأفضل، لم أرَ قط أحسن منها قالا لي: أمَّا هذه فدار الشُّهداء».
ومن ألوان الكرامة أيضاً: أنَّ الملائكة تظلُّه بأجنحتها فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنه قال: "جيء بأبي إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم -أي شهيدًا يوم أحد- قد مُثِّل به، فوضع بين يديه، فذهبتُ أكشف عن وجهه، فنهاني قومي, فسمع النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم صوت صائحة فقال:
«لم تبكين؟ فلا تبكي مازالت الملائكة تظلُّه بأجنحتها»". ولهذا كلِّه، كان الشَّهيد وحده من أهل الجنَّة، هو الذي يحبُّ أن يرجع إلى الدُّنيا، كما في حديث أنس -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «ما أحد يدخل الجنَّة، يحبُّ أن يرجع إلى الدُّنيا, وأنَّ له ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد فإنَّه يتمنَّى أن يرجع إلى الدُّنيا، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة» وفي رواية: «لما يرى من فضل الشَّهادة» (رواه البخاري، ومسلم).
وليس عجباً إذًا أن يجد هذا البيان النَّبويُّ الرفيع صداً ضخماً، وأثراً بالغاً، وسلطاناً قوياً، على نفوس تلك الصَّفوة المختارة, والصُّحبة التَّقية من الصَّحابة الكرام الأعلام, فتوطدت في نفوسهم أعمق معاني الشَّهادة, وترسَّخت في قلوبهم أسمى درجات الحبِّ لها، والولع بها، والعمل الدَّؤوب لبلوغ مقامها, والتَّنعم برياضها.
وفي صحيح السُّنة من أخبار هذا الشَّوق الظَّامئ, والحبِّ الطَّهور الذي أكرم الله به هذه الكوكبة المؤمنة، والطَّليعة الرَّاشدة, ما لا يحدُّه حدٌّ, ولا يستوعبه بيان, فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه، عن أنس -رضي الله عنه- أنَّه قال: "انطلق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، حتَّى سبقوا المشركين إلى بدر, وجاء المشركون فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يقدمَنَّ أحدٌ منكم إلى شيء، حتَّى أكون أنا دونكم» فدنا المشركون فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «قوموا إلى جنَّة عرضها السَّموات والأرض» فقال عمير بن الحمام: يا رسول الله! إلى جنَّة عرضها السَّموات والأرض؟".
قال: «نعم» قال: بخ بخ, قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ما يحملك على قول بخ بخ؟!» قال: لا والله يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها, فقال: «فإنك من أهلها» فأخرج تمرات من قرنه -وهو جعبة النِّبال- فجعل يأكل منهنَّ, ثمَّ قال: إن أنا حييتُ حتَّى آكل تمراتي هذه، إنَّها لحياة طويلة, فرمى ما كان معه من التَّمر، ثمَّ قاتل، حتَّى قتل".
انظروا كيف استبطأ -رضي الله عنه- الشَّهادة، لتأخرها عنه دقائق معدودات, ولقد كانت كلمات بعضهم عند الشَّهادة صرخات مدوية، زلزلت قلوب قاتليهم, وحملتهم على الدُّخول في دين الله, هذا حرام بن ملحان -رضي الله عنه- أحد القرَّاء الذين بعث بهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يدعون قوماً من المشركين إلى الإسلام, ويقرؤون عليهم القرآن, فغدرت بهم رعل وذكون، من قبائل العرب وقتلوهم عند بئر معونة, فهذا حرام يصيح عند الاستشهاد في وجه قاتله: "فزت وربِّ الكعبة" وأدبر قاتله، من المشركين، وسأل عن معنى ذلك، فقيل له: "إنَّه قصد الشَّهادة" فكانت سبباً في إسلام هذا القاتل (روى هذه القصَّة البخاري في صحيحه).
وكان بعضهم، يأتيه من روح الجنَّة وريحها، ما لا يملك معه إلا شدة الإقبال على القتال، وعلى الاستبسال فيه, فهذا أنس بن مالك -رضي الله عنه- يقول: "غاب عمِّي أنس بن النَّضر عن قتال بدر. فقال: يا رسول!! غبت عن أوَّل قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين، ليرينَّ الله ما أصنع, فلمَّا كان يوم أحد، وانكشف المسلمون، قال: اللهمَّ إنِّي أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين- ثمَّ تقدم واستقبله سعد بن معاذ -رضي الله عنه- فقال: يا سعد بن معاذ!! الجنَّة وربِّ النَّضر، إنِّي لأجد ريحها دون أحد".
قال سعد: "فما استطعت يا رسول ما صنع" قال أنس: "ووجدنا به بضعاً وثمانين، ما بين ضربة بالسَّيف، أو طعنة برمح, أو رمية بسهم, وجيء به، وقد مُثِّل به، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه". (رواه البخاري، ومسلم). ثم انظروا إلى خبر هذا الأعرابي المسلم، كيف صدق الله في طلب الشَّهادة فصدقه الله، وبلَّغه ما أراد, فقد أخرج النِّسائي في سننه؛ بإسناد صحيح عن شداد -رضي الله عنه-: "أنَّ رجلاً من الأعراب جاء إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فآمن به واتبعه، ثمَّ قال: أهاجر معك، فأوصى به النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعض أصحابه، فلمَّا كانت غزاة، غنم النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقسم الغنائم، وقسم للأعرابي".
فقال: "ما هذا؟ قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «قسمته لك» قال الأعرابي: ما على هذا اتَّبعتك, ولكن! اتَّبعتك على أن أرمى ها هنا -وأشار إلى حلقه بسهم- فأموت، فأدخل الجنَّة, فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إن تصدق الله يصدقْك» فلبثوا قليلاً، ثمَّ نهضوا إلى قتال العدو، فأتي به النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أهو هو؟ » قالوا: نعم, قال: «صدق الله فصدقه» ثم كفَّنه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في جبَّته, ثمَّ قدَّمه فصلَّى عليه, وكان ممَّا ظهر من صلاته: «اللهمَّ هذا عبدك، خرج مهاجرًا في سبيلك، فقتل شهيداً, أنا شهيدٌ على ذلك»".
وأي شهادة أرفع وأسمى وأصدق وأخلص، من هذه الشَّهادة الكريمة العظيمة, وكم في حياة السَّلف من صور هذا الحبِّ العاطر، والشَّوق الظَّامئ إلى الظَّفر بمقام الشَّهادة, ياله من مقام.
وهكذا مضت على بذل الشَّهادة كواكب متتابعة، وقوافل متعاقبة، من الشُّهداء الأبرار، الذين كتبوا بدمائهم الزَّكية أروعُ صحائف التَّضحية والبذل، وأرفعُ أمثلة العطاء والجود, إنَّه الجود بالنَّفس, وهو أقصى غاية الجود.
فها هم شهداء المسلمين في بلاد الشَّام، نرى بأمِّ أعيننا, نرى ويرى العالم كلُّه معنا، هذه الصُّور العظيمة المتجدِّدة، من صور الانتفاضة والشَّهادة، على أرض الشَّام المباركة, إنَّنا في حاجة إلى مواقف وصور تحيي في ضمير الأمة معاني الشَّهادة، وتبعث في روحها حبَّ الاستشهاد من جديد، سيرًا على درب السَّلف -رضوان الله عليهم- ذلك الدَّرب الذي سلكه من قبلهم، رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والأنبياء من قبله، نصراً لدين الله، ودحراً لأعداء الله.
فيا أيها المسلمون في كلِّ أرجاء الدُّنيا: النُّصرة النُّصرة, انصروا إخوانكم في بلاد الشَّام، فإنَّ نصرهم فرض متعيِّنٌ عليكم، فلا تخذلوهم, واسمعوا لقول نبيكم صلوات الله وسلامه عليه إذ يقول: «ما من مسلم يخذُل امرءاً مسلماً، في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته, وما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته» (رواه الإمام أحمد في مسنده, وأبو داود في سننه بإسناد حسن).
ويا أهل العلم, وقادة الفكر والرَّأي في الأمَّة, جرِّدوا أقلامكم، وابسطوا ألسنتكم، في إحياء معنى الشَّهادة والاستشهاد، وتعميق مفهومها في النُّفوس, وترسيخه في سويداء القلوب، بمختلف الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئيَّة, وادعموا بكلِّ ما تستطيعون إخوانكم في أرض الرِّباط، والجهاد والنِّضال.
وما رأيناه من بلاد الحرمين الشَّريفين -حرسها الله- من صور البذل السَّخيِّ, والعطاء المتدفق المنبعث من مختلف المستويات, قادة وعلماء ومسئولين، رجالاً ونساءً, شباباً وشيوخاً، في كلِّ نازلة تنزل بالمسلمين لأمرٌ مشرفٌ، ولكنَّني أجد ضعفًا في دعم الشَّعب السُّوري، للتَّخلُّص من طاغيته القاتل: (فشَّار الجزَّار) الذي عاث في الأرض الفساد، وقتل الرِّجال والشَّباب، والنِّساء والأطفال، كلِّي أملٌ أن يبادر أهلنا في بلاد الحرمين، حكَّاماً ومحكومين، لنجدة وغوث إخوانهم في سوريَّة، فهم في أمس الحاجة لنجدتهم وغوثهم، ولا تنسوا أنَّهم يردُّون عن بلاد الحرمين المدَّ الرَّافضي الحاقد الكافر.
سعد العثمان