فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا ۚ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ
تفسير بن كثير
يقول
تعالى: فسل هؤلاء المنكرين للبعث أيهما أشد خلقاً هم أم السماوات والأرض،
وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ فإنهم يقرون أن هذه
المخلوقات أشد خلقاً منهم، وإذا كان الأمر كذلك فلم ينكرون البعث؟ وهم
يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا، كما قال عزَّ وجلَّ: { لخلق السماوات
والأرض أكبر من خلق الناس ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون} ثم بيَّن أنهم
خلقوا من شيء ضعيف فقال: { إنا خلقناهم من طين لازب} قال مجاهد والضحّاك:
هو الجيد الذي يلتزق بعضه ببعض، وقال ابن عباس وعكرمة: هو اللزج الجيد،
وقال قتادة: هو الذي يلزق باليد، وقوله عزَّ وجلَّ: { بل عجبت ويسخرون} أي
بل عجبت يا محمد من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث، وأنت موقن مصدق بما أخبر
اللّه تعالى من الأمر العجيب، وهو إعادة الأجسام بعد فنائها، وهم بخلاف
أمرك من شدة تكذيبهم يسخرون مما تقول لهم من ذلك، قال قتادة: عجب محمد صلى
اللّه عليه وسلم وسخر ضلاّل بني آدم، { وإذا رأوا آية} أي دلالة واضحة على
ذلك { يستسخرون} ، قال مجاهد: يستهزئون، { وقالوا إن هذا إلا سحر مبين} أي
ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين، { أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا
لمبعوثون أو آباؤنا الأولون} ؟ يستبعدون ذلك ويكذبون به { قل نعم وأنتم
داخرون} ، أي قل لهم يا محمد: نعم تبعثون يوم القيامة بعدما تصيرون تراباً
وعظاماً، { وأنتم داخرون} أي حقيرون تحت القدرة العظيمة، كما قال تعالى: {
وكل أتوه داخرين} ، وقال تعالى: { سيدخلون جهنم داخرين} ثم قال جلت عظمته: {
فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون} أي فإنما هو أمر واحد من اللّه عزَّ
وجلَّ، يدعوهم أن يخرجوا من الأرض، فإذا هم قيام بين يديه ينظرون إلى أهوال
يوم القيامة.
تفسير الجلالين
{ فاستفتهم } استخبر كفار مكة
تقريرا أو توبيخا { أهم أشد خلقا أم من خلقنا } من الملائكة والسماوات
والأرضين وما فيهما وفي الإتيان بمن تغليب العقلاء { إنا خلقناهم } أي
أصلهم آدم { من طين لازب } لازم يلصق باليد: المعنى أن خلقهم ضعيف فلا
يتكبروا بإنكار النبي والقرآن المؤدي إلى هلاكهم اليسير .
تفسير الطبري
الْقَوْل
فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا
أَمْ مَنْ خَلَقْنَا } يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَاسْتَفْتِ يَا مُحَمَّد هَؤُلَاءِ
الْمُشْرِكِينَ الَّذِي يُنْكِرُونَ الْبَعْث بَعْد الْمَمَات وَالنُّشُور
بَعْد الْبَلَاء : يَقُول : فَسَلْهُمْ : أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا ؟ يَقُول :
أَخَلْقهمْ أَشَدّ ؟ أَمْ يَخْلُق مَنْ عَدَدْنَا خَلْقه مِنْ
الْمَلَائِكَة وَالشَّيَاطِين وَالسَّمَوَات وَالْأَرْض ؟ . وَذُكِرَ أَنَّ
ذَلِكَ فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : " أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا
أَمْ مَنْ عَدَدْنَا " ؟ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22436- حَدَّثَنِي مُحَمَّد
بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى ;
وَحَدَّثَنِي الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن , قَالَ : ثنا وَرْقَاء ,
جَمِيعًا عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد { أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا
أَمْ مَنْ خَلَقْنَا } ؟ قَالَ : السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال .
22437 -حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا يَحْيَى بْن وَاضِح , قَالَ
: ثنا عُبَيْد بْن سُلَيْمَان , عَنْ الضَّحَّاك أَنَّهُ قَرَأَ : "
أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا أَمْ مَنْ عَدَدْنَا " ؟ . وَفِي قِرَاءَة عَبْد
اللَّه بْن مَسْعُود " عَدَدْنَا " يَقُول : { رَبّ السَّمَوَات وَالْأَرْض
وَمَا بَيْنهمَا وَرَبّ الْمَشَارِق } 37 5 يَقُول : أَهُمْ أَشَدّ
خَلْقًا , أَمْ السَّمَوَات وَالْأَرْض ؟ يَقُول : السَّمَوَات وَالْأَرْض
أَشَدّ خَلْقًا مِنْهُمْ . 22438 -حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد ,
قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة " فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ
خَلْقًا أَمْ مَنْ عَدَدْنَا " مِنْ خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض , قَالَ
اللَّه : { لَخَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض أَكْبَر مِنْ خَلْق النَّاس }
40 57 . . . الْآيَة . 22439 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن , قَالَ
: ثنا أَحْمَد بْن الْمُفَضَّل , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ {
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا } قَالَ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ,
سَلْهُمْ أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا { أَمْ مَنْ خَلَقْنَا } الْقَوْل فِي
تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا أَمْ
مَنْ خَلَقْنَا } يَقُول تَعَالَى ذِكْره لِنَبِيِّهِ مُحَمَّد صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَاسْتَفْتِ يَا مُحَمَّد هَؤُلَاءِ
الْمُشْرِكِينَ الَّذِي يُنْكِرُونَ الْبَعْث بَعْد الْمَمَات وَالنُّشُور
بَعْد الْبَلَاء : يَقُول : فَسَلْهُمْ : أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا ؟ يَقُول :
أَخَلْقهمْ أَشَدّ ؟ أَمْ يَخْلُق مَنْ عَدَدْنَا خَلْقه مِنْ
الْمَلَائِكَة وَالشَّيَاطِين وَالسَّمَوَات وَالْأَرْض ؟ . وَذُكِرَ أَنَّ
ذَلِكَ فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : " أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا
أَمْ مَنْ عَدَدْنَا " ؟ . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ
أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22436- حَدَّثَنِي مُحَمَّد
بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى ;
وَحَدَّثَنِي الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن , قَالَ : ثنا وَرْقَاء ,
جَمِيعًا عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد { أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا
أَمْ مَنْ خَلَقْنَا } ؟ قَالَ : السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال .
22437 -حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا يَحْيَى بْن وَاضِح , قَالَ
: ثنا عُبَيْد بْن سُلَيْمَان , عَنْ الضَّحَّاك أَنَّهُ قَرَأَ : "
أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا أَمْ مَنْ عَدَدْنَا " ؟ . وَفِي قِرَاءَة عَبْد
اللَّه بْن مَسْعُود " عَدَدْنَا " يَقُول : { رَبّ السَّمَوَات وَالْأَرْض
وَمَا بَيْنهمَا وَرَبّ الْمَشَارِق } 37 5 يَقُول : أَهُمْ أَشَدّ
خَلْقًا , أَمْ السَّمَوَات وَالْأَرْض ؟ يَقُول : السَّمَوَات وَالْأَرْض
أَشَدّ خَلْقًا مِنْهُمْ . 22438 -حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد ,
قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة " فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ
خَلْقًا أَمْ مَنْ عَدَدْنَا " مِنْ خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض , قَالَ
اللَّه : { لَخَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض أَكْبَر مِنْ خَلْق النَّاس }
40 57 . . . الْآيَة . 22439 - حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْحُسَيْن , قَالَ
: ثنا أَحْمَد بْن الْمُفَضَّل , قَالَ : ثنا أَسْبَاط , عَنْ السُّدِّيّ {
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا } قَالَ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ ,
سَلْهُمْ أَهُمْ أَشَدّ خَلْقًا { أَمْ مَنْ خَلَقْنَا } ' وَقَوْله : {
إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِين لَازِب } يَقُول : إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ
مِنْ طِين لَاصِق . وَإِنَّمَا وَصَفَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِاللُّزُوبِ ,
لِأَنَّهُ تُرَاب مَخْلُوط بِمَاءٍ , وَكَذَلِكَ خَلْق اِبْن آدَم مِنْ
تُرَاب وَمَاء وَنَار وَهَوَاء ; وَالتُّرَاب إِذَا خُلِطَ بِمَاءٍ صَارَ
طِينًا لَازِبًا , وَالْعَرَب تُبَدِّل أَحْيَانًا هَذِهِ الْبَاء مِيمًا ,
فَتَقُول : طِين لَازِم ; وَمِنْهُ قَوْل النَّجَاشِيّ الْحَارِثِيّ :
بَنَى اللُّؤْم بَيْتًا فَاسْتَقَرَّتْ عِمَاده عَلَيْكُمْ بَنِي
النَّجَّار ضَرْبَة لَازِم وَمِنْ اللَّازِب قَوْل نَابِغَة بَنِي ذُبْيَان
: وَلَا يَحْسَبُونَ الْخَيْر لَا شَرّ بَعْده وَلَا يَحْسَبُونَ الشَّرّ
ضَرْبَة لَازِب وَرُبَّمَا أَبْدَلُوا الزَّاي الَّتِي فِي اللَّازِب تَاء ,
فَيَقُولُونَ : طِين لَاتِب , وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قَيْس ; زَعَمَ
الْفَرَّاء أَنَّ أَبَا الْجَرَّاح أَنْشَدَهُ : صُدَاع وَتَوْصِيم
الْعِظَام وَفَتْرَة وَغَثْي مَعَ الْإِشْرَاق فِي الْجَوْف لَاتِب
بِمَعْنَى : لَازِم , وَالْفِعْل مِنْ لَازِب : لَزِبَ يَلْزُب , لَزْبًا
وَلُزُوبًا , وَكَذَلِكَ مِنْ لَاتِب : لَتَبَ يَلْتُب لُتُوبًا .
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى { لَازِب } قَالَ أَهْل
التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 22440- حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه
بْن يُوسُف الْجُبَيْرِيّ , قَالَ : ثنا مُحَمَّد بْن كَثِير , قَالَ :
ثنا مُسْلِم , عَنْ مُجَاهِد , عَنْ اِبْن عَبَّاس , فِي قَوْله : { مِنْ
طِين لَازِب } قَالَ : هُوَ الطِّين الْحُرّ الْجَيِّد اللَّزِج . *
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا يَحْيَى بْن سَعِيد وَعَبْد
الرَّحْمَن , قَالَا : ثنا سُفْيَان , عَنْ الْأَعْمَش , عَنْ مُسْلِم
الْبُطَيْن , عَنْ سَعِيد , عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَالَ : اللَّازِب :
الْجَيِّد . * حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ : ثنا عُثْمَان بْن سَعِيد
, قَالَ : ثنا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك ,
عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : اللَّازِب : اللَّزِج , الطَّيِّب . *
حَدَّثَنِي عَلِيّ , قَالَ : ثنا أَبُو صَالِح , قَالَ : ثني مُعَاوِيَة ,
عَنْ عَلِيّ , عَنْ اِبْن عَبَّاس , فِي قَوْله : { مِنْ طِين لَازِب }
يَقُول : مُلْتَصِق . * حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد , قَالَ : ثني أَبِي
, قَالَ : ثني عَمِّي , قَالَ : ثني أَبِي , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ اِبْن
عَبَّاس , قَوْله : { إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ طِين لَازِب } قَالَ :
مِنْ التُّرَاب وَالْمَاء فَيَصِير طِينًا يَلْزَق . 22442 - حَدَّثَنَا
هَنَّاد , قَالَ : ثنا أَبُو الْأَحْوَص , عَنْ سِمَاك , عَنْ عِكْرِمَة ,
فِي قَوْله : { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِين لَازِب } قَالَ : اللَّازِب
: اللَّزِج . 22443 - حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد , قَالَ : ثنا يَحْيَى بْن
وَاضِح , قَالَ : ثنا عُبَيْد بْن سُلَيْمَان , عَنْ الضَّحَّاك { إِنَّا
خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِين لَازِب } وَاللَّازِب : الطِّين الْجَيِّد . 22444
- حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد , قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ
قَتَادَة , قَالَ اللَّه : { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِين لَازِب }
وَاللَّازِب : الَّذِي يَلْزَق بِالْيَدِ . 22445 -حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن
عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثنا عِيسَى ; وَحَدَّثَنِي
الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن , قَالَ : ثنا وَرْقَاء , جَمِيعًا عَنْ
اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد , فِي قَوْله : { مِنْ طِين لَازِب }
قَالَ : لَازِم . 22446 -حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَبْد الْحَمِيد الْآمِلِيّ
, قَالَ : ثنا مَرْوَان بْن مُعَاوِيَة , قَالَ : ثنا جُوَيْبِر , عَنْ
الضَّحَّاك , فِي قَوْله : { مِنْ طِين لَازِب } قَالَ : هُوَ اللَّازِق .
22447 - حَدَّثَنِي يُونُس , قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ :
قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله : { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِين لَازِب
} قَالَ : اللَّازِب : الَّذِي يَلْتَصِق كَأَنَّهُ غِرَاء , ذَلِكَ
اللَّازِب . وَقَوْله : { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِين لَازِب } يَقُول :
إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِين لَاصِق . وَإِنَّمَا وَصَفَهُ جَلَّ
ثَنَاؤُهُ بِاللُّزُوبِ , لِأَنَّهُ تُرَاب مَخْلُوط بِمَاءٍ , وَكَذَلِكَ
خَلْق اِبْن آدَم مِنْ تُرَاب وَمَاء وَنَار وَهَوَاء ; وَالتُّرَاب إِذَا
خُلِطَ بِمَاءٍ صَارَ طِينًا لَازِبًا , وَالْعَرَب تُبَدِّل أَحْيَانًا
هَذِهِ الْبَاء مِيمًا , فَتَقُول : طِين لَازِم ; وَمِنْهُ قَوْل
النَّجَاشِيّ الْحَارِثِيّ : بَنَى اللُّؤْم بَيْتًا فَاسْتَقَرَّتْ
عِمَاده عَلَيْكُمْ بَنِي النَّجَّار ضَرْبَة لَازِم وَمِنْ اللَّازِب
قَوْل نَابِغَة بَنِي ذُبْيَان : وَلَا يَحْسَبُونَ الْخَيْر لَا شَرّ
بَعْده وَلَا يَحْسَبُونَ الشَّرّ ضَرْبَة لَازِب وَرُبَّمَا أَبْدَلُوا
الزَّاي الَّتِي فِي اللَّازِب تَاء , فَيَقُولُونَ : طِين لَاتِب ,
وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قَيْس ; زَعَمَ الْفَرَّاء أَنَّ أَبَا
الْجَرَّاح أَنْشَدَهُ : صُدَاع وَتَوْصِيم الْعِظَام وَفَتْرَة وَغَثْي
مَعَ الْإِشْرَاق فِي الْجَوْف لَاتِب بِمَعْنَى : لَازِم , وَالْفِعْل
مِنْ لَازِب : لَزِبَ يَلْزُب , لَزْبًا وَلُزُوبًا , وَكَذَلِكَ مِنْ
لَاتِب : لَتَبَ يَلْتُب لُتُوبًا . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي
مَعْنَى { لَازِب } قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
22440- حَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه بْن يُوسُف الْجُبَيْرِيّ , قَالَ : ثنا
مُحَمَّد بْن كَثِير , قَالَ : ثنا مُسْلِم , عَنْ مُجَاهِد , عَنْ اِبْن
عَبَّاس , فِي قَوْله : { مِنْ طِين لَازِب } قَالَ : هُوَ الطِّين الْحُرّ
الْجَيِّد اللَّزِج . * حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن بَشَّار , قَالَ : ثنا
يَحْيَى بْن سَعِيد وَعَبْد الرَّحْمَن , قَالَا : ثنا سُفْيَان , عَنْ
الْأَعْمَش , عَنْ مُسْلِم الْبُطَيْن , عَنْ سَعِيد , عَنْ اِبْن عَبَّاس ,
قَالَ : اللَّازِب : الْجَيِّد . * حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب , قَالَ :
ثنا عُثْمَان بْن سَعِيد , قَالَ : ثنا بِشْر بْن عُمَارَة , عَنْ أَبِي
رَوْق , عَنْ الضَّحَّاك , عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : اللَّازِب :
اللَّزِج , الطَّيِّب . * حَدَّثَنِي عَلِيّ , قَالَ : ثنا أَبُو صَالِح ,
قَالَ : ثني مُعَاوِيَة , عَنْ عَلِيّ , عَنْ اِبْن عَبَّاس , فِي قَوْله :
{ مِنْ طِين لَازِب } يَقُول : مُلْتَصِق . * حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن
سَعْد , قَالَ : ثني أَبِي , قَالَ : ثني عَمِّي , قَالَ : ثني أَبِي ,
عَنْ أَبِيهِ , عَنْ اِبْن عَبَّاس , قَوْله : { إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ
طِين لَازِب } قَالَ : مِنْ التُّرَاب وَالْمَاء فَيَصِير طِينًا يَلْزَق .
22442 - حَدَّثَنَا هَنَّاد , قَالَ : ثنا أَبُو الْأَحْوَص , عَنْ سِمَاك
, عَنْ عِكْرِمَة , فِي قَوْله : { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِين لَازِب
} قَالَ : اللَّازِب : اللَّزِج . 22443 - حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد ,
قَالَ : ثنا يَحْيَى بْن وَاضِح , قَالَ : ثنا عُبَيْد بْن سُلَيْمَان ,
عَنْ الضَّحَّاك { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِين لَازِب } وَاللَّازِب :
الطِّين الْجَيِّد . 22444 - حَدَّثَنَا بِشْر , قَالَ : ثنا يَزِيد ,
قَالَ : ثنا سَعِيد , عَنْ قَتَادَة , قَالَ اللَّه : { إِنَّا
خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِين لَازِب } وَاللَّازِب : الَّذِي يَلْزَق بِالْيَدِ
. 22445 -حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثنا أَبُو عَاصِم ,
قَالَ : ثنا عِيسَى ; وَحَدَّثَنِي الْحَارِث , قَالَ : ثنا الْحَسَن ,
قَالَ : ثنا وَرْقَاء , جَمِيعًا عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد ,
فِي قَوْله : { مِنْ طِين لَازِب } قَالَ : لَازِم . 22446 -حَدَّثَنَا
عَمْرو بْن عَبْد الْحَمِيد الْآمِلِيّ , قَالَ : ثنا مَرْوَان بْن
مُعَاوِيَة , قَالَ : ثنا جُوَيْبِر , عَنْ الضَّحَّاك , فِي قَوْله : {
مِنْ طِين لَازِب } قَالَ : هُوَ اللَّازِق . 22447 - حَدَّثَنِي يُونُس ,
قَالَ : أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْب , قَالَ : قَالَ اِبْن زَيْد , فِي قَوْله
: { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِين لَازِب } قَالَ : اللَّازِب : الَّذِي
يَلْتَصِق كَأَنَّهُ غِرَاء , ذَلِكَ اللَّازِب . '
تفسير القرطبي
قوله
تعالى: { فاستفتهم} أي سلهم يعني أهل مكة؛ مأخوذ من استفتاء المفتي. { أهم
أشد خلقا أم من خلقنا} قال مجاهد : أي من خلقنا من السموات والأرض والجبال
والبحار. وقيل : يدخل فيه الملائكة ومن سلف من الأمم الماضية. يدل على ذلك
أنه أخبر عنهم { بمن} قال سعيد بن جبير : الملائكة. وقال غيره: { من}
الأمم الماضية وقد هلكوا وهم أشد خلقا منهم. نزلت في أبي الأشد بن كلدة،
وسمى بأبى الأشد لشدة بطشه وقوته. وسيأتي في { البلد} ذكره. ونظير هذه {
لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس} [غافر : 57] وقوله: { أأنتم أشد
خلقا أم السماء} [النازعات : 27]. { إنا خلقناهم من طين لازب} أي لاصق؛ قال
ابن عباس. ومنه قول علي رضي الله عنه : تعلم فإن الله زادك بسطة ** وأخلاق
خير كلها لك لازب وقال قتادة وابن زيد : معنى { لازب} لازق. الماوردي :
والفرق بين اللاصق واللازق أن اللاصق : هو الذي قد لصق بعضه ببعض، واللازق :
هو الذي يلتزق بما أصابه. وقال عكرمة: { لازب} لزج. سعيد بن جبير : أي جيد
حر يلصق باليد. مجاهد: { لازب} لازم. والعرب تقول : طين لازب ولازم، تبدل
الباء من الميم. ومثله قولهم : لا تب ولازم. على إبدال الباء بالميم.
واللازب الثابت؛ تقول : صار الشيء ضربة لازب، وهو أفصح من لازم. قال
النابغة : ولا تحسبون الخير لا شر بعده ** ولا تحسبون الشر ضربة لازب وحكى
الفراء عن العرب : طين لاتب بمعنى لازم. واللاتب الثابت؛ تقول منه : لتب
يلتب لتبا ولتوبا، مثل لزب يلزُب بالضم لزوبا؛ وأنشد أبو الجراح في اللاتب :
فإن يـك هذا من نبيذ شربته ** فإني من شرب النبيذ لتائـــب صداع وتوصيم
العظام وفترة ** وغم مع الإشراق في الجوف لاتب واللاتب أيضا : اللاصق مثل
اللازب، عن الأصمعي حكاه الجوهري. وقال السدي والكلبي في اللازب : إنه
الخالص. مجاهد والضحاك : إنه المنتن. قوله تعالى: { بل عجبت} قراءة أهل
المدينة وأبي عمرو وعاصم بفتح التاء خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي بل
عجبت مما نزل عليك من القرآن وهم يسخرون به. وهي قراءة شريح وأنكر قراءة
الضم وقال : إن الله لا يعجب من شيء، وإنما يعجب من لا يعلم. وقيل : المعنى
بل عجبت من إنكارهم للبعث. وقرأ الكوفيون إلا عاصما بضم التاء. واختارها
أبو عبيد والفراء، وهي مروية عن علي وابن مسعود؛ رواه شعبة عن الأعمش عن
أبي وائل عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ { بل عجبت} بضم التاء. ويروى عن ابن
عباس. قال الفراء في قوله سبحانه: { بل عجبت ويسخرون} قرأها الناس بنصب
التاء ورفعها، والرفع أحب إلي؛ لأنها عن علي وعبدالله وابن عباس. وقال أبو
زكريا القراء : العجب إن أسند إلى الله عز وجل فليس معناه من الله كمعناه
من العباد؛ وكذلك قوله: { الله يستهزئ بهم} [البقرة : 15] ليس ذلك من الله
كمعناه من العباد. وفي هذا بيان الكسر لقول شريح حيث أنكر القراءة بها. روى
جرير والأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال : قرأها عبدالله يعني ابن
مسعود { بل عجبتُ ويسخرون} قال شريح : إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من
لا يعلم. قال الأعمش فذكرته لإبراهيم فقال : إن شريحا كان يعجبه رأيه، إن
عبدالله كان أعلم من شريح وكان يقرؤها عبدالله { بل عجبتُ} . قال الهروي :
وقال بعض الأئمة : معنى قوله: { بل عجبت} بل جازيتهم على عجبهم؛ لأن الله
تعالى أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الحق؛ فقال: { وعجبوا أن جاءهم
منذر منهم} [ص : 4] وقال: { إن هذا لشيء عجاب} ، { أكان للناس عجبا أن
أوحينا إلى رجل منهم} [يونس : 2] فقال تعالى: { بل عجبت} بل جازيتهم على
التعجب. قلت : وهذا تمام معنى قول الفراء واختاره البيهقي. وقال علي بن
سليمان : معنى القراءتين واحد، التقدير : قيل يا محمد بل عجبت؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم مخاطب بالقرآن. النحاس : وهذا قول حسن وإضمار القول
كثير. البيهقي : والأول أصح. المهدوي : ويجوز أن يكون إخبار الله عن نفسه
بالعجب محمولا على أنه أظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام
العجب من المخلوقين؛ كما يحمل إخباره تعالى عن نفسه بالضحك لمن يرضى عنه -
على ما جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم - على أنه أظهر له من
رضاه عنه ما يقوم له مقام الضحك من المخلوقين مجازا واتساعا. قال الهروي :
ويقال معنى (عجب ربكم) أي رضي وأثاب؛ فسماه عجبا وليس بعجب في الحقيقة؛ كما
فال تعالى: { ويمكر الله} [الأنفال : 30] معناه ويجازيهم الله على مكرهم،
ومثله في الحديث (عجب ربكم من إلّكُم وقنوطكم). وقد يكون العجب بمعنى وقوع
ذلك العمل عند الله عظيما. فيكون معنى قوله: { بل عجبت} أي بل عظم فعلهم
عندي. قال البيهقي : ويشبه أن يكون هذا معنى حديث عقبة بن عامر قال : سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (عجب ربك من شاب ليست له صبوة) وكذلك
ما خرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (عجب الله
من قوم يدخلون الجنة في السلاسل) قال البيهقي : وقد يكون هذا الحديث وما
ورد من أمثاله أنه يعجب ملائكته من كرمه ورأفته بعباده، حين حملهم على
الإيمان به بالقتال والأسر في السلاسل، حتى إذا آمنوا أدخلهم الجنة. وقيل :
معنى { بل عجبت} بل أنكرت. حكاه النقاش. وقال الحسين بن الفضل : التعجب من
الله إنكار الشيء وتعظيمه، وهو لغة العرب. وقد جاء في الخبر (عجب ربكم من
إلّكُم وقنوطكم). قوله تعالى: { ويسخرون} قيل : الواو واو الحال؛ أي عجبت
منهم في حال سخريتهم. وقيل : تم الكلام عند قوله: { بل عجبت} ثم استأنف
فقال: { ويسخرون} أي مما جئت به إذا تلوته عليهم. وقيل : يسخرون منك إذا
دعوتهم. { وإذا ذكروا} أي وعظوا بالقرآن في قول قتادة: { لا يذكرون} لا
ينتفعون به. وقال سعيد بن جبير : أي إذا ذكر لهم ما حل بالمكذبين من قبلهم
أعرضوا عنه ولم يتدبروا. { وإذا رأوا آية} أي معجزة { يستسخرون} أي يسخرون
في قوله قتادة. ويقولون إنها سحر. واستسخر وسخر بمعنًى مثل استقر وقر،
واستعجب، وعجب. وقيل: { يستسخرون} أي يستدعون السخري من غيرهم. وقال مجاهد :
يستهزئون. وقيل : أي يظنون أن تلك الآية سخرية. { وقالوا إن هذا إلا سحر
مبين} أي إذا عجزوا عن مقابلة المعجزات بشيء قالوا هذا سحر وتخييل وخداع. {
أئذا متنا} أي انبعث إذا متنا؟. فهو استفهام إنكار منهم وسخرية. { أو
آباؤنا الأولون} أي أو تبعث آباؤنا دخلت ألف الاستفهام على حرف العطف. قرأ
نافع: { أو آباؤنا} بسكون الواو. وقد مضى هذا في سورة { الأعراف} . في قوله
تعالى: { أو أمن أهل القرى} [الأعراف : 98].
تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي
قوله
تعالى: { فَٱسْتَفْتِهِمْ } [الصافات: 11] أمر من الله تعالى لرسوله صلى
الله عليه وسلم، يعني: سَلْهم، واستفتى طلب الفتوى؛ لأن الألف والسين
والتاء تدل على الطلب، والفتوى من الفُتوَّة، فحين يكون الإنسان بصدد شيء،
يريد أن ينفذه، ولا يعرف فيه طريق الحق والصواب يذهب إلى مَنْ هو أعلم منه
يستفتيه. يعني: يطلب منه الفتوى أو الفتوَّة، والقوى الدافعة له على العمل،
فكأنه كان ضعيفاً وأراد أن يَقْوَى برأي غيره.
فكأن الحق - سبحانه
وتعالى - استأمنهم أنْ يُفتوا، وأنْ يجيبوا هم؛ لأنه سبحانه واثق من أن
الخصوم لن يجدوا إلا قَوْلة الحق ينطقون بها؛ لذلك لم يأتِ سبحانه بالمراد
إخباراً، إنما أتى به إقراراً منهم وشهادة؛ لأن الخبر يحتمل الصدق أو
الكذب، أمَّا الإقرار فلا يستطيع أحد إنكاره؛ لذلك قالوا: الإقرار سيد
الأدلة.
ومضمون السؤال { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً
أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } [الصافات: 11]؟ يعني: أهم وأعظم وأشدّ خَلْقاً من
السماء والأرض، ثم لم يَأْت بالجواب لوضوحه، ولن يكون إلا أنّ خَلْق السماء
والأرض أشدُّ من خَلْقهم وأعظم؛ لذلك قال سبحانه في موضع آخر:
{ لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }
[غافر: 57].
فإنْ
أردتَ أنْ تُدلِّل على هذه المسألة فتأمل خَلْقك وخَلْق السماوات والأرض،
فالسماء والأرض مع أنهما يخدمانك، إلا أنهما أطول عمراً منك وأبقى، فهما
منذ خلقهما الله باقيان لم يزولا، أما الإنسان فيموت وهو طفل، ويموت وهو
شاب، ويموت وهو شيخ، يموت ويترك التركة باقيةً تتوارثها الأجيال.
إذن: هما أشدّ وأقوى؛ لأنهما مخلوقان خلقة دائمة، وأقوى من ناحية أنهما محكومان باختيارهما حين قالتا:
{ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }
[فصلت: 11].
فاختارا أن تكونا مُسخَّرتين قال تعالى:
{
إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ
وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا
وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }
[الأحزاب: 72].
وقلنا:
إن هناك فَرْقاً بين قدرة النفس على تحمُّل الأمانة وقدرتها على الأداء،
فقد تتحمل الأمانة وتنوى أداءها، لكن لا تضمن نفسك عند الأداء، فربما
تغيَّرتْ الظروف، أو طرأ عليك ما يحول بينك وبين أدائها؛ لذلك امتنعت
السماوات والأرض عن حَمْل الأمانة، وخرجت عن مرادها لمراد ربها، فكانت
مُسخَّرة. إذن: فهي أيضاً مُخيَّرة إلا أنها اختارتْ بكلمة واحدة منسحبة
على الزمن كله، أما الإنسان فاختار أنْ يكون مختاراً ينفذ أو لا ينفذ.
ثم إن السماء والأرض وما بينهما وما فيهما من مخلوقات وكواكب وأجرام وأفلاك تسير وفق نظام دقيق مُحكَم، لا يشذ ولا يتخلف أبداً:
{ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ }
[الرحمن: 5-6].
وقال:
{ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }
[يس:
40].أما الإنسان فيتخبط في الحياة، ويخالف منهج ربه، وينحرف عن الطريق
الذي رُسِمَ له. إذن: أيّهما أعظم خَلْقاً، وأشدّ تكويناً، وأصحّ أداءً؟ لا
يسع هؤلاء الكفار رغم كفرهم إلا أنْ يقولوا: السماوات والأرض أشدُّ وأعظم
من خَلْق الإنسان.
ومثال ذلك حين سألهم الله
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ }
[الزخرف: 87]
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ }
[الزمر: 38] لأن هذه كلها حقائق لا تُنكر، حتى من الكفار.
ثم
يسوق لهم الحق سبحانه دليلاً على صِدْق هذه المسألة، فيقول: { إِنَّا
خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [الصافات: 11] يعني: هذا أصلهم، فأين
هم من خَلْق السماوات والأرض؟ ومعنى { لاَّزِبٍ } [الصافات: 11] يعني: طين
متماسك بعضه ببعض، فهو وَسَط بين السيولة والصلابة، يعني: أشبه ما يكون
بطين الصَّلْصَال الذي نوزعه على التلاميذ في المدارس، والطين تراب وُضِع
عليه الماء، فإنْ زاد الماء صار الطين لَيِّناً يسيل من يدك، وإنْ قَلَّ
الماء جَفَّ وتصلَّبَ.
لذلك وقف المستشرقون عند مراحل التكوين الإنساني يعترضون: من أيِّ شيء خَلِق الإنسان، والقرآن قال
{ مِّن طِينٍ }
[المؤمنون: 12] و
{ مِّن تُرَابٍ }
[الحج: 5] و
{ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ }
[الحجر: 33] و
{ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ }
[الرحمن:
14]. وقد غاب عنهم أن هذه مراحل للشيء الواحد كما قلنا، فالماء يُوضَع على
التراب فيصير طيناً، ولو تُرِك هذا الطين إلى أنْ يعطن أو يتعفن يصير حمأ
مسنوناً، فإنْ تُرِك حتى يجفَّ يصير صَلْصالاً.
الحق سبحانه
يُحدِّثنا هنا عن الخَلْق الأول للإنسان { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ }
[الصافات: 11]؛ لأن آدم عليه السلام خُلِق من الطين ثم خُلِقت بعده حواء،
والقرآن قَصَّ علينا قصة خَلْق آدم، لكن اكتفى في خَلْق حواء بقوله تعالى:
{ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }
[النساء: 1].
قالوا:
{ مِنْهَا } يعني من جنس تكوينها، فيصح أن تكون حواءُ قد خُلِقت مثل آدم
من الطين، أو خُلِقَتْ من ضلع من أضلاعه، وفي كلتا الحالتين تعود إلى أصل
الطين، والله تعالى يخلق ما يشاء، وسبق أنْ بيَّنا طلاقة القدرة في عملية
خَلْق الإنسان، وأنها استوعبت كُلُّ الصور العقلية لهذه العملية، فالله
سبحانه يخلق من لا أب ولا أم، ويخلق من أب بلا أم، ويخلق من أم بلا أب، وقد
يجتمع الأب والأم ولا يحدث بينهما إنجاب.
يقول الحق سبحانه:
{
يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ * أَوْ
يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً }
[الشورى: 49-50].
إذن:
خُلِق الإنسان الأول، وهو آدم عليه السلام من الطين، وخُلِقَتْ من جنسه
زوجه، ثم جاءت الذرية من آدم بعد أنْ فارق الطينية وصار إنساناً، فنحن وإنْ
جئنا من نسل إنسان، إلا أنه يعود في أصله إلى الطين، فإنْ قُلْتَ: أين
الطينية، وقد تشكَّل شكلاً آخر غير الطين، بدليل أنه إذا استحم بالماء لا
يذوب كما يذوب الطين وتتفكك جزئياته.نقول: لا بُدَّ أن يرد الإنسان الأصل
أو الفرع إلى الأصل الأول وهو الطين؛ لأن الإنسان يتوالد ويتكاثر بواسطة
الحيوان المنوي في الذكر والبويضة في الأنثى، فمن أين يأتي هذا وهذه؟ من
الدم، والدم نتيجة الغذاء، والغذاء مصدره الأرض والطين. إذن: سنؤول لا
محالة إلى الطين، لكن من الطين مرة بواسطة، ومرة بدون واسطة.
والحق سبحانه نبّهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى:
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ }
[فصلت: 53].
فنحن
لم نشاهد عملية الخَلْق، إنما أخبرنا الله بها، فعلمنا أن الإنسان خُلِق
من الطين الذي مَرَّ بهذه المراحل، حتى نفخ الله فيه الروح، ودبَّتْ فيه
الحياة، هذا كله لم نشاهده، لكن شاهدنا الموت الذي ينقض الحياة، وعلينا نحن
أن نأخذ مما نشاهده دليلاً على صدق الغيب الذي أخبرنا الله به ولم نشاهده.
ونحن
نعلم أن نَقْضَ الشيء يأتي على عكس بنائه، فالذي يهدم عمارة مثلاً من عدة
أدوار يبدأ بالدور الأخير، كذلك يأتي الموت عكس الحياة، فأول شيء، تخرج
الروح، ومعلوم أنْ نَفْخَ الروح في الإنسان هى آخر مرحلة في مراحل الخَلْق،
فإذا ما فارقتْ الروحُ الجسدَ عاد إلى أصله، حيث يرمّ الجسد وتمتص الأرض
ما فيه من الماء، ثم يتحلل الباقي ويعود إلى التراب الذي جاء منه.
ثم
آخر، هو أن الإنسان الذي خُلِق من الطين وقوامه الغذاء الذي يخرج من
الطين، لما حَلَّل العلماء جسمَ الإنسان وجدوه مُكوِّناً من 16 عنصراً.
أولها: الأوكسجين، ثم الكربون، ثم الهيدروجين، ثم النتروجين.. الخ. وهي نفس
العناصر المكوِّنة للتربة الزراعية الخِصْبة التي تعطينا القوت، إذن: يكون
هذا دليلاً على صِدْق الحق - تبارك وتعالى - في قوله: { إِنَّا
خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } [الصافات: 11].